Sunday, September 4, 2011

مائة خطوة من الثورة ... أحمد الشيطي

مائة خطوة إلى التحرير يوميات الثورة المصرية أحمد زغلول الشيطي

الإهداء
إلى شهداء ثورة 25 يناير2011

بلاغة جديدة: 25 يناير 2011
ما بين الساعة 12 و1 بعد منتصف الليل كنت داخل شقتي في شارع قصر النيل، حتى والنوافذ مغلقة كنت أسمع صوت إلقاء القنابل المسيلة للدموع بكثافة، وصوت إطلاق رصاص وأصوات صراخ وهتاف جماعي. فتحت النافذة استنشقت رائحة الغاز على الفور ورأيت أعدادًا من المتظاهرين قادمين من ميدان التحرير، ورأيت بعضهم يحمل مصابين ويحاول البحث عن نجده بالصراخ وبالمحاولة مع الهواتف المحمولة التي لا تستجيب بسبب التشويش عليها، منذ الخامسة مساء وأنا في الميدان، كان يمكن رؤية شبان وفتيات تدور أعمارهم حول العشرين، شعاراتهم بسيطة وجذرية وبلا حسابات، تحذف الترهل والرطرطة أمامها، كان البعض من محترفي العمل السياسي يرون أن هؤلاء الشبان مجانين، كيف يصرون على المبيت في الميدان دون تخطيط مسبق ودون ترتيب لمسألة الإعاشة وتحديد مطالب؟ لقد كان هذا هو جوهر ما خرج عليه هؤلاء الشبان، العمل المؤسسي الذي يقصف الروح ويُدجنها على انتظار عبثي، كانوا يراهنون على تتطابق القول والفعل، على الحلم بإمكانية التغيير، هنا والآن، هل تلاقى البعض من محترفي العمل السياسي مع نجاح آلة القمع عند منتصف الليل؟ يوم 25يناير2011 هو يوم اكتشاف بلاغة جديدة غير قابلة للتأسيس.

قبل الثورة: 3 يناير 2011
وقفة صامتة الاثنين 3 يناير 2011
قرأت خبرًا على موقع اليوم السابع يقول إنني سأشارك مع مجموعة من الكتاب والمثقفين يوم الاثنين، 3 يناير 2011 الساعة الخامسة مساءً وقفةً صامتة بالشموع والشارات السوداء لمدة ساعة احتجاجًا على تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية، رأيت اسمي ضمن من سيشاركون بالوقفة وتصدرت الخبر صورة الناشر محمد هاشم مدير دار ميريت للنشر، إذن فقد وضع هاشم اسمي مفترضًا موافقتي، لما بيننا من مفاهيم لا خلاف عليها، فضلاً عن كوننا صرنا منذ فترة وجيزة جيرانًا في نفس العمارة، فهو يسكن في مدخل "ب" وأنا في مدخل"أ"، ويمكن نظريًا إجراء محاورة عبر النافذة، وبالتالي فإننا – سكان البناية الواحدة – مفترض فينا أننا لن نقبل أن نتربص بالأستاذ صفوت عشم الله المحامى جارنا، وكرشة الذي أسقط حزامه لأسفل ونظارته ذات السلسة، وتهذيبه الذي لا يُصدق، ونقذف به من النافذة لكونه مسيحيًا، يمكن افتراض أن محمد هاشم حسن النية، أو رومانسي جدًا مثل الوقفة الاحتجاجية بالشارات السوداء والشموع ، ويمكن افتراض أن هناك من يريد إلقاء الأستاذ صفوت من النافذة لمجرد أنه لا يسير في الطريق المعتمد لدخول الجنة مثلنا نحن المسلمون. لقد تلقيت تحية احترام كبيرة من لواء على المعاش حين أخذت شقة مصر الجديدة من أستاذ سامي، قال لي الحاج المهذب أخيرًا صارت العمارة المكونة من 42 شقة خالية من أي مسيحي، رغم اعترافه بأمانة وخلق أستاذ سامي، إذن المسألة مجرد وقت، حتى نتخلص من كل "مسيحي" ونرتاح من هذا الصداع لنفرغ بعد ذلك لبعضنا، ولنقضى على الشيعة والبهائيين، وعلى كل من ليس وهابيًا، المسألة مجرد وقت، وخطط تنظيف مصر تسير بنجاح منذ رحيل اليهود المصريين مع صعود الضباط على خشبة الحكم.

في الساعة الخامسة سرت مع محمد هاشم ومحمد عبلة وإبراهيم داود ولطفي لبيب ومحمد داود وآخرين إلى ميدان طلعت حرب، كان تمثال صاحب الميدان واقفًا كعادته ينظر إلى امتداد شارع قصر النيل بحيث يُرى بالكاد تمثال الزعيم الشاب مصطفى كامل يحتل ميدانًا خاصًا به، هل لمح الورقة بين يدي السيد طلعت حرب؟ كان كيسًا من الشموع القصيرة في جيبي، وكان الأمن المركزي بخوذاته ودروعه وأحذيته الثقيلة وعصيه وملابسه السوداء قد احتل الميدان بكامله، فوجئنا بتجمع آخر من المثقفين يتحرك من أمام جروبي إلى الرصيف المواجه لمكتبة مدبولي، كان بينهم الروائي بهاء طاهر، سار تجمعنا وراءهم، وصلنا إلى أمام المكتبة، كان لطفي لبيب قلقًا وحريصًا على عدم الاصطدام بالأمن، جاء أحد الضباط الذين يرتدون ملابس مدنية وراح يتكلم بتهذيب قائلا: "ممنوع يا جماعة، انتو كلكم ناس كبار ولكم احترامكم، لكن ممنوع"، قال لطفي لبيب: "دول الكتاب والمثقفين ضمير مصر، عايزين يعبروا عن حزنهم ورفضهم للتفجير اللي حصل، ودي وقفة صامته دون أي هتاف"، ثم التفت إلينا قائلاً : خلاص يا جماعة الباشا وافق على عشر دقائق ونمشى على طول، والتفت للضابط ليشكره فقال الضابط المهذب بحزم: "ممنوع"، لم تنطل عليه حيلة الممثل القدير لطفي لبيب، فهو لم يوافق أصلا، بعدها أفسح الضابط المهذب المجال لضابط آخر يرتدي الزي الميري راح يتكلم بعبارات قوية فيما يتزايد توافد الناس من فجوات مختلفة، كنا نشعل الشموع في الصفوف الخلفية، كان بالكيس عشر شمعات وزعت سبعة شمعات وبقى في يدي واحدة واثنتان في جيبي. كان الضابط يزداد غضبا كلما رأى الشموع تتزايد، وكان بدء دخول المساء يعطى إيحاءً بتزايد عدد الشموع وبالتالي خروج الأمر عن السيطرة، في هذه اللحظة بدأت صفوف الأمن المركزي تُطبق علينا، ثم سمعت شعبان يوسف يزعق غاضبًا وهو يشير لبهاء طاهر، كان أحد الجنود قد دفع بهاء طاهر وكاد يُسقطه على الأرض، كان صوت شعبان يوسف الغاضب هو التعليق الصوتي الوحيد حتى الآن على حركة جنود الأمن المركزي وهم يدفعوننا باتجاه شارع الأنتكخانة، كان يقول "دا حاصل على جايزة مبارك اللي هو رئيسك"، ويشير إلى بهاء طاهر ثم يتابع شعبان "إحنا واقفين ضد اللي حصل، انتو سبتو الكنيسة تتفجر ليه؟" كان لغضب شعبان وقع الصدق وكان ناطقًا بما في صدور الجميع، كان يريد أن يقول للأمن إننا هنا ندافع عن ما أوصلتم البلد له بتسلطكم وغبائكم، وإن مجرد الدور الأمني لتأمين كنيسة أنتم عاجزون عنه. كان الأمن بضغطه يضطر الناس للنطق وحتى الصراخ بما يتنافى مع الوقفة الرمزية الصامتة، راح الأمن يدفعنا ويحاصر حركتنا، بدا أنهم يريدون إدخالنا إلى شارع كريم الدولة، ارتفعت الأصوات من حاملي الشموع "ما تدخلوش الشارع، عايزين يحاصرونا هناك"... "الشارع سد مالوش مخرج". كانت صفوف الأمن المركزي تدفعنا بالفعل إلى شارع كريم الدولة، احتمينا بالرصيف، لكن الحيز الضيق وإخلاء الأمن للميدان وإفراغه في شارع كريم الدولة دفعنا إلى الهبوط في دائرة إلى مدخل شارع كريم، وسرعان ما أطبق الأمن على هذه الدائرة، كانت الشمعة تسيل على أصابعي، وكنت مندهشًا أن الشمع المنصهر كان دافئًا لا يلسع، فكرت أن ذلك – ربما – من برودة الجو. كانت إضاءة الكاميرات الكثيرة التي تتحرك في نطاق ضيق تنعكس على الوجوه وتحاول الإسراع بالالتقاط قبل اعتراض الأمن وملاحقة الكاميرات، اشتبك جندي أمن مركزي مع شاب يحمل كاميرا محاولا انتزاعها منه، لم يطاوعه الشاب وراح يقاومه، صديقة الشاب راحت تصرخ بشكل هستيري. كان هدف الأمن هو إسكات الناس وفض وقفة الشموع إلى أن أوصلنا إلى مدخل شارع كريم الدولة أمام الواجهة الجانبية لمبنى حزب التجمع، بدأ أعضاء التجمع يطلون من بلكونة الحزب، و يلقون بهتافاتهم وتتجاوب معهم الجموع المحاصرة داخل شارع كريم الدولة، راحت الهتافات وإلقاء الخطابات أمام الكاميرات تتكاثر بحيث انقسمت الدائرة إلى عدة دوائر، كل دائرة بها كاميرا وإضاءة وشخص يخطب أمام الكاميرا، رأيت كاميرا تقترب من الفنان محمد عبلة لتصور معه، رفض محمد عبلة قائلا ببساطة "الاتفاق أن الوقفة وقفة صامته". كان الخروج من شارع كريم الدولة مستحيلاً تقهقرت إلى الخلف، دخلت الأتيلييه، كنت في حاجة لكوب شاي دافئ.


الأيام الأولى: 25 يناير : 1 فبراير
لم أكتب، عن هذه الفترة أي يوميات، أنا أصلًا لا أكتب يوميات، فكتابة اليوميات تتضمن التعامل مع مادة ملتهبة في طور التشكل، وأنا أفضل الانتظار، لظني أن الانتظار مدعاة لصفاء المادة من الشوائب، وللمزيد من التأني والفهم، غير أنني نادم على عدم كتابة ولو ملاحظات للتذكير عن هذه الأيام الأولى، والأحداث غير قابلة لأن تعاد بكامل عنفوانها لأتمكن من اقتناص لحظات تخصني، بعيني لا بعين كاميرا فيديو أو حتى برواية شهود عيان، المادة هاربة، هي من النوع الذي قد تمضي حياة كاملة دون أن يتكرر، كان يمكنني مشاهدة الثورة من البلكونة فبيتي في شارع قصر النيل، يطل على قطاع لا بأس به من ميدان التحرير، والمسافة من بيتي إلى الميدان هي بالتقريب على بعد مائة خطوة غربًا، وهى المسافة التي قطعتها ذهابًا وإيابًا معظم أيام الثورة الثمانية عشر، مجتازًا المتاريس والبوابات الأمنية والتفتيش الذاتي عن الأسلحة، و يقع ميدان طلعت حرب – المقر الثاني للثورة – على بعد مائة خطوة أخرى شرقًا. كانت الثورة على مرمى بصري، وكانت قنابل الغاز حين تنفجر في وجوه المتظاهرين، يملأ الغاز فضاء شقتي، وأدمع وأختنق به رغم أني بطبيعة الحال بعيدًا عن المظاهرة، توقعت أن يكتسب الأمن المركزي العداوة المستحكمة لربات البيوت مستنشقات الغاز جبرًا داخل مطابخهن، فآلته التي تعمل عند احتدام الأحداث تعمل بقانونها أيضًا، تتقدم أو تتأخر خطوة أو خطوات عن رغبة مديري الآلة، التي لا تفرق ما بين مَن هم في الشارع ومَن هم في البيت، مَن هم أعداء ومَن هم على الحياد، وقد بدأ تطويق الشوارع بوسط البلد بقوات إضافية من الأمن، وبحواجز حديدية إضافية منذ صباح الثلاثاء 25 يناير، وعند الساعة الثانية ظهرًا كانت حركة السيارات قد مُنعت تمامًا من الشوارع المؤدية إلى ميدان التحرير، أُغلق شارع قصر النيل بحواجز حديدية ما بين جروبي والخطوط الجوية الفرنسية، وأُغلق شارع طلعت حرب بحواجز حديدية عند إشارة المرور المؤدية للميدان للقادم من التحرير، وقد رأيت مظاهرة قوامها حوالي ثلاثة آلاف متظاهر قادمة من شارع هدى شعراوي قاصدة ميدان طلعت حرب، اصطدمت بالحواجز على فوهة ميدان طلعت حرب فاضطرت إلى السير في الاتجاه العكسي نجو ميدان التحرير، فوجئت بمسارعة قوات الأمن المركزي بإغلاق الشارع بحواجز حديدية وصف من الجنود عند تقاطع شارع طلعت حرب مع شارع البستان وبذلك تم محاصرة المظاهرة التي لم يبق أمامها سوى التفرق أو السير في شارع هدى شعراوي الذي يفضى إلى شوارع بعيدة عن ميدان التحرير. كانت المظاهرة تردد شعاراتها الرئيسية التي رددتها بعد ذلك كثيرًا "يسقط يسقط حسني مبارك"، "الشعب يريد إسقاط النظام"، "سلميه... سلمية"، "علّي وعلي وعلّي الصوت اللي هيهتف مش هيموت"... كانت هذه المظاهرة الصغيرة القادمة من هدى شعراوي الساعة الثانية ظهر يوم 25 يناير هي بداية الثورة كما رأيتها، وقد ساءني يومها أن عمارة الخطوط الجوية الفرنسية كانت خاضعة لعملية ترميم بمعرفة شركة المقاولين العرب، ورأيت بعض عمال الترميم يقفون في مدخل شارع بار استوريل من ناحية طلعت حرب، يقومون بطلاء قطع حديدية بالبوية دون التفات لشباب المظاهرة، يومها ذهبت إلى دار نشر ميريت وقلت لموظفي الدار إذا التفت العمال إلى المظاهرة ساعتها ستكون المظاهرة مقنعة.

لقد أحالتني أحداث الأيام الأولى إلى حلم قديم كان يواتيني كثيرًا لسبب غير مفهوم في مراهقتي، فقد كنت أحلم أنني نائم في بيتنا بشارع البندر بمدينة دمياط، في الحجرة الكبيرة المطلة على الشارع، تحديدًا على سرير أمي، بينما تدور معركة بآليات عسكرية وطائرات وقنابل، حين أستيقظ لا أرى غير معارك قسم الشرطة الذي يلاصق جداره جدار بيتنا، أرى عربات الأمن المركزي وهي تنزل المساجين العائدين من المحكمة أو تنزل المقبوض عليهم من الشوارع في الحملات الدورية فيما تهرول نساؤهم وأقاربهم وراءهم لرؤيتهم وتبادل كلمات ورسائل سريعة معهم فيما يصعدون سلالم القسم، أستيقظ ليلا على صوت التعذيب بالتعليق أعلى الباب، أو بصعق الخصيتين بالكهرباء، أو بغمر الرأس في بالوعة المجاري، أو أستيقظ فجرًا على صوت هياج شديد، أنظر من النافذة، أرى ضابط المباحث يسير في مقدمة تظاهرة كبيرة من أهل مدينة دمياط فيما يسير أمامه خمسة شبان عراة مقيدي الأيدي من الخلف، ويطوقهم مخبرو القسم، يتناهى إليّ أن هؤلاء الشبان هم من اغتصبوا بائعة الفجل في سوق الجمعة، وتناوبوا عليها، وأن رئيس المباحث أصر على أن يقتادهم عراة في جميع شوارع دمياط.

كان شباب المظاهرة في اليوم الأول يصلون إلى حافة الحواجز الحديدية ولا يلمسونها، ويهتفون أمام صف الجنود أمام الحاجز "سلمية... سلمية"، استطاع الشباب دخول الميدان لأول مرة حوالي الساعة الرابعة مساء بعد عمليات كر وفر وإنهاك للأمن المركزي الذي لم يبدر منه أي هجوم، مكتفيًا بقطع الشوارع المؤدية للميدان بحواجز حديدية وصفوف من الجنود، وكانوا يتحركون بحواجزهم تبعًا لحركة جموع المتظاهرين، من اللحظة الأولى في الميدان أعلن المتظاهرون أنهم سيبيتون ليلتهم في الميدان، كنت أسمع البعض ينتقدون الشباب ويقولون كيف يختارون يوم إجازة هو إجازة عيد الشرطة موعدًا لمظاهرتهم، وأنهم بذلك فقدوا دعم الموظفين أثناء خروجهم من مقار أعمالهم. هاجمتني آلام القولون في نحو الساعة الخامسة كانت أعداد المتظاهرين تتزايد قادمة من مداخل الميدان المختلفة ولا أثر قريب للأمن، سرتُ مندهشًا من هؤلاء الذين دخلوا إلى الميدان، دخلت شارع البستان لأذهب إلى بيتي في شارع قصر النيل عبر الجراج المفتوح على الشارعين، قابلت عند باب الجراج ثلاثة من قدامى المناضلين، كان رأيهم أن هؤلاء الشباب مجانين وأنه ليمكنهم المبيت في الميدان لابد من تدبير أمر الإعاشة والمناوبات، سلمتُ وانصرفت، فقد كانت آلام القولون تتزايد، كنت أعرف أن علاجي هو النوم بعد الغذاء، وتناول العلاج لأنعم بالراحة البيتية ثم أعود مرة أخرى لرؤية إلى أين سيفضي الأمر، وهل سيستمر الأمن في عدم التعرض للمتظاهرين.

فتحتُ علبة تونة وحضرت طبق سلطة وسخنت الخبز وأدرت محطة الموسيقى العالمية وجلست في الليفنج على الأرض أتغذى، كنت أعرف أنه كان ينبغي أن أحضر طبق شربة دافئ، ولكنه كسلي المعتاد... بعد أن أخذت العلاج ذهبت إلى السرير أغمضتُ عيني، صنعت كل الحيل ليأتي النوم دون جدوى، جربت الدخول إلى الحمام، كان الوضع ميئوسًا منه، كنت أفكر في هؤلاء الأولاد وكونهم لا يعبؤون بأي حسابات، وأتذكر قصتي القصيرة (حصان) في مجموعة عرائس من ورق، وكيف أنه انطلق غير عابئ بالحواجز والقيود قابلا قدره أيًا كان، لأن كينونته تكمن في هذا الانطلاق وحده، حوالي الساعة 12 عند منتصف الليل سمعت صوت إطلاق قنابل وصوت إطلاق رصاص، لم أصدق في بادئ الأمر، ظننت أن هذا غير حقيقي، كانت الأصوات تتوالى، جريت نحو البلكونة صدمتني رائحة الغاز بغزارة وسالت دموعي فجأة، تراجعت إلى الداخل لففت رأسي بفوطة وعدتُ، كان الشباب يأتون جريًا من ناحية ميدان التحرير وهم يحملون مصابًا ويصرخون في التليفون المحمول بحثًا عن نجده، والتليفونات لا تجيب بسبب التشويش عليها.

صباح اليوم التالي كتبت النص الذي صدّرت به هذا الكتاب ونشرته على الفيس بوك، قلت إنهم ثوار ثورة غير قابلة للتأسيس، وبالتالي فهي غير قادرة على التكلس والسقوط في الرتابة.

شيئًا فشيئا خلال الأيام الأولى تغير وجه الحياة في الميدان، هذه العطلة السعيدة جعلتني أكتب نصًا إنشائيًا فرحًا ومبشرًا أسميته (سجل مدني ميدان التحرير)، غلبني انفعال المحب الواقع في الأسر، أخيرًا رأيت أعقد وأغرب أحلامي وأكثرها سرية مجسدًا أمامي كشط الزمن المترهل، القطيعة مع الرطرطة، لقد هربت من الانفعال بإلغاء صوتي الشخصي وهو ما نجحت في استعادته في اليوم الثاني من فبراير، رحت أقول وأخبر الناس أن الآن في ميدان التحرير، يمكنك استخراج شهادة وفاة، أو شهادة ميلاد، أو بطاقة شخصية، أو تغير محل إقامة أو تغير مهنة في أقل من ثانية، دون حاجة لأوراق، أو أجهزة كومبيوتر، أو طوابير انتظار، أو تقديم إيصال كهرباء، أو شهادة من اثنين من الموظفين الرسميين، ودون ضامن، أو شهادات فقدْ، أو محاضر في أقسام الشرطة، ودون سداد أي رسوم، ودون استخراج أي بيانات من دار المحفوظات، ودون أية صور فوتوغرافية. وكتبت أن الشرط الوحيد المطلوب هو أن تتواجد في ميدان التحرير بنفسك إن كنت قادرًا، أو تتواجد بقلبك، أو بعقلك إن كنت غير قادر، ففي الميدان في هذه اللحظة بالذات يقوم رواد الميدان اللذين وفدوا إليه يوم 25 يناير2011 بإنشاء وتشغيل أكبر مكتب سجل مدني في مصر، هو سجل مدني ميدان التحرير، القائمون عليه أنت بالتأكيد تعرفهم، هؤلاء شباب في العشرينيات، خريجو جامعات ومدارس ومعاهد متوسطة، وأنهم يرغبون في تحرير شهادة وفاة للسلطة الشائخة، وتحرير شهادة ميلاد للجميع، حتى لمن يختلفون معهم، هنا والآن، وقلت إني رأيت شهادات ميلاد لسيد درويش وعلي عبد الرازق وطه حسين... الخ، وشهادات وفاة لمن يريدون تثبيت اللحظة ولمن يكرسون للخوف والإرهاب. وهكذا ذاب صوتي الشخصي ولم أقتنص لحظة واحدة من الثورة، نشرت هذا النص على صفحتي في الفيس بوك يوم 3 فبراير رغم أني كتبت النص يوم 31 يناير، كان عليّ السيطرة على انفعالي لأستطيع رؤية هذا الشيء الذي ولد أسفل البلكونة، لأستطيع أن أرى تفاصيله، تحولاته، ترددات روحه، غير أني كنت فردًا بعينين فقط، وبقدرات محدودة في النهاية، ولا يمكنني الإحاطة بهذا الشيء وحدي، وأن على الجميع أن يحكى حكايته ليمكن مقاربة ما حدث. بدءًا من 2 فبراير بدأت اليوميات لكن هذا لا يعني أني قلت كلّ ما شاهدتُ، فالذاكرة تخون، قلت ما استطعت حتى عن الأيام الأولى ضمن اليوميات... أذكر في يوم 29 يناير كان أحمد اللباد قد صمم عدة لوحات بالأبيض والأسود للاستخدام في مظاهرة التحرير، وجاء بها إلى دار ميريت للنشر، كانت كلها مثبتة على ورق مقوى، وتخطفها الأصدقاء، بقيت واحدة، تلك التي تحمل العلامة المرورية التي تعنى عدم إمكانية الرجوع إلى الخلف ومكتوب تحتها ذات العبارة ممنوع الرجوع إلى الخلف، على أن أقوى اللوحات كانت تلك التي تحمل صورة مبارك بنظرة جانبية حقود وباعوجاج للفم يعطى إيحاء بشراسة ديكتاتور طاعن في السن ومكتوب عليها أن تاريخ انتهاء الصلاحية يوم 25 يناير وختم المغادرة وصورة طائرة وتاريخ يناير 2011، علّقنا جميعًا أن هذه معضلة، فما بقي من يناير يومان هما 30 و 31، رحنا نتهكم حول الموعد وأن مبارك لازق في الكرسي، وقال أحمد إنه سيعدل التاريخ، ولو أننا نريده بعد ستة أشهر ما فيش مانع، هاج الجميع ضاحكين "حرام عليك يا راجل"، كان على اللباد أن يحدد تاريخ رحيل مبارك عوضًا عن مبارك نفسه والثوار، وكانت اللوحة المرورية ممنوع الرجوع للخلف من نصيبي، أخذتها معي إلى البيت وأنا أنتوى الذهاب بها للمظاهرة في اليوم التالي.

لم يكن حلمًا صحوت فعلًا في بيتي بشارع قصر النيل على صوت آليات عسكرية وطائرات تحوم في الجو، كانت الدبابات والمدرعات تعيد تمركزها في محيط وسط البلد بالقاهرة الخديوية، وكانت الطائرات الهليوكوبتر تدور حول سماء ميدان التحرير دون توقف، إذن هي الحرب، تلك العطلة السعيدة، إجازة من رتابة الحياة اليومية، لقد بدت هذه الآليات العسكرية ديناصورات خيالية تتحرك بين رصيفي شارع قصر النيل الآخذ في التحول إلى شارع شبيه بشوارع الحرب الأهلية اللبنانية، خاصة وطائرات إف 16 تحلق في الميدان على مستوى منخفض ظهيرة يوم 31 يناير، كان هذا الجزء من شارع قصر النيل يتحول ليلا إلى شارع للسيارات الفارهة الأكثر حداثة وللنساء مرتديات الهوت جوب اللائي يكافحن للنزول من الهمر، والشيروكي و والجا جور والمرسيدس دون أن يظهر "البانتي" الرفيع لمدة تزيد عن الثواني من نزولهن إلى عبورهن إلى صالة الديسكو أو الريستوران، لقد أغلق الدسكو والريستوران وحتى نادي السيارات، وكنت أعيش هذه العطلة السعيدة التي أزاحت الحياة اليومية إلى أجل غير مسمى، فمنذ اللحظة الأولى "الشعب يريد إسقاط النظام"، وإسقاط نوعية الحياة اليومية التي تصيبني بالملل، لقد تلاقيت مع الثورة منذ البدء، فقد استطاعوا تغيير المنظومة اليومية في الميدان، وصنعوا قطيعة حقيقية تحت بصري حين أطل من البلكونة.

كانت دار ميريت منذ بدء المظاهرة تتحول تدريجيًا إلى مقر للمثقفين والصحفيين والمناضلين، ومركزا يذهبون منه إلى الميدان ويعودون إليه، وكان التليفزيون مفتوحًا على الجزيرة والعربية وبي بي سي طوال الوقت، بدأت تتحدد حركتي ما بين شقتي في الدور الثالث ودار ميريت للنشر التي نشرت لي كتابين، والميدان، وسوق باب اللوق، وبقاله ثروت بشارع الأنتكخانة، يوما 26 و 27 يناير كنت كلما ذهبت إلى البقال أرى عربات الأمن المركزي مصطفة إلى جوار مبنى حزب التجمع، وفى مدخل شارع كريم الدولة، وسمعت أنهم في أحيان كثيرة يقبضون على الناس عشوائيًا ويدخلونهم إلى العربة، كانت حركة السير طبيعية في شارعي الأنتكخانة وشامبليون رغم مظاهرتي المحامين والصحفيين أمام نقابتيهما، كنا نتابع في الجزيرة تغطيتها للمظاهرتين ونبأ القبض على عضو مجلس النقابة محمد عبد القدوس ونقله وزملائه إلى معسكر للأمن المركزي بمنطقة الجبل الأحمر خارج القاهرة، قررنا في ميريت أن ننزل للمظاهرة حوالي الساعة الثامنة والنصف، اقترحت أن ننقسم إلى مجموعتين حتى لا يُقبض علينا. قال الآتون من شامبليون إنهم يقبضون على الناس وإن هناك بلطجية، انقسمنا قسمين، كان معي حمدي أبو جليل، قال إنه بدوى متخلف وإنه لو أخذ قلمًا من أي عسكري أو ضابط فلن يمكنه تجاهل الأمر و لن يسكت على ذلك، وربما استأجر واحدا ليقتل من ضربه، كان يبين خوفه من القلم الافتراضي، ذهبنا إلى التكعيبة وجدناها مغلقة، سرنا من شارع ضيق على يسار التكعيبة يتعامد على أحد الشوارع المتفرعة من شامبليون، قال لي حمدي بلهجته التي تنتمي لبدو الفيوم والمشرّبة بقاهرية الإحياء الشعبية وبلكنة مثقفة "أنا ماشي معاك علشان أنت محامي"، ولم أكن أفضل حالًا منه، لأني لو حظيت بالقلم الافتراضي فلن أبقى واقفًا على قدمي طويلا، رأينا أفرادًا من القوة السرية ينتظرون للقبض على القادمين من الممر، تراجعنا، شعرتُ أن هذه أول مرة يخرج فيها حمدي لمظاهرة، وكنت مثله تقريبًا، وكان ما يحدث غريبًا وغير معروف إلى ما سينتهي. كان حمدي إلى هذه اللحظة متشككًا وكنت أنا أشعر بالهول، فقد عشتُ طويلا إلى جوار قسم الشرطة في دمياط ورأيت الآلهة التي تحترف التعذيب لأغراض مقدسة، تحيطهم القداسة والمهابة، ولا يمكن تخيل هذا الاجتراء الحاد عليهم، لقد سمعت الشتائم تنهال على السيد الرئيس والسيدة حرمه في شارع طلعت حرب في اليوم الأول دون أن تفيض أرواح من نطقوا بالشتائم، فهذا الذي يحتل الفضاء والأرض ويمتلك خاتم النسر الأصلي لم يُبدهم في الحال. قال حمدي إنه "مروّح" وعند شارع الأنتكخانة افترقنا، وأنا مندهش كيف سيمر حمدي أمام صف عربات الأمن المركزي المتمركز أمام حزب التجمع وحده، بيد أن براءة هدفه من السير، وهي أنه "مروّح" أعطته شجاعة إضافية، انقلبتُ إلى ممر (أفترإيت) عائدًا إلى البيت.

لا شيء هادئ في ميدان التحرير
اليوم الثامن، هو يوم الوقفة المليونية في ميدان التحرير، حوالي الساعة 11 صباحًا ذهبت وصديقي الفنان أحمد اللباد إلى الميدان من ناحية شارع قصر النيل، نهاية الشارع كان يمكن رؤية الحشود البشرية حاملة اللافتات وأعلام مصر، أوقفنا صف من الشباب يقفل الميدان، كان من يتقدموننا يبرزون بطاقاتهم قبل السماح لهم بالدخول، كانت هذه هي نقطة الأمن فقد سرت تخوفات في الأيام الماضية من إمكانية دخول مندسين من نظام حسنى مبارك الآخذ في التخبط والانهيار بسلاح أبيض لتحويل الوقفة الاحتجاجية إلى فوضى، كنت كلما استمعت لهذا الكلام أتخيل سلاحًا أبيض يخترق في صمت بطن أحد المتظاهرين، ثم نراه يسقط في صمت أيضًا في دائرة تتسع من الدم قاني الحمرة دون أن نعرف أبدا من غرس السكين؟ والميدان عامر بكل الأطياف السياسية، وأمن الجميع يعتمد على الثقة والهدف المشترك، كنت أتخيلني في بحيرة الدم هذه، ففي اليوم الأول وحتى الثاني والثالث والرابع، حاول الأمن المركزي سحق المظاهرة بالقنابل المسيلة للدموع، وبالرصاص المطاطي والرصاص الحي في جميع الشوارع المحيطة بالميدان، الأنتكخانة، وهدى شعراوي، شارع التحرير، القصر العيني، وشامبليون، وداخل الميدان ذاته الذي لم يتوقف المتظاهرون عن دخوله منذ اليوم الأول، لكن اكتمل احتلال الميدان يوم جمعة الغضب، حين تدفقت الحشود من مساجد القاهرة بعد صلاة الجمعة في تظاهرات راحت تصب كلها في الميدان وتلتحم ببعضها وتصبح نسيجًا بشريًا مصريًا واحدًا، على أن بعض المظاهرات كانت تلتحم يبعضها حتى قبل دخول الميدان، كما التحمت القادمة من شارع صبري أبو علم مع القادمة من شارع طلعت حرب، كان الأمن يتتبع المظاهرات ويقطع طريقها بالمتاريس الحديدية وبصف أو صفين من جنود الأمن المركزي المسلحين بنادق قاذفة لقنابل الغاز المسيلة للدموع وبنادق لإطلاق الرصاص، وتقف في خلفية الصفين عربة مجهزة لإطلاق المياه على المتظاهرين، كانت العلاقة كرّ وفرّ، فإذا ما انقلبت المظاهرة من الشارع الذي أُغلق إلى آخر سارع الأمن المركزي بإغلاق الشارع الجديد بنفس الصّفين والعربة والقنابل والرصاص.

رغم هتاف المتظاهرين الدائم "سلمية .. سلمية" كانوا يبدؤون بإطلاق قنابل الغاز التي تسيل الدموع عنوة وتبقى رائحتها في الجو وتُشعر بالاختناق والرغبة في البحث عن هواء نقى دون جدوى، فكل الهواء مشبع بالغاز، بعد محاولات كثيرة انهار الأمن فجأة واختفى بشكل غامض من جميع شوارع وسط البلد، وانفتح الميدان في الساعة الخامسة من مساء يوم جمعة الغضب مع صوت رصاص متقطع من ناحية شارع القصر العيني باتجاه مبنى وزارة الداخلية ومبنى مجلس الوزراء، وبورود أنباء عن سقوط قتلى من المتظاهرين، راحت الأمواج البشرية تتدفق إلى قلب ميدان التحرير الذي أصبح المقر الرسمي للاحتجاج والثورة، وفى اليوم الثامن اجتزت وأحمد اللباد الحاجز الأمني، ودخلت معه إلى حيث الموج البشري يوم الوقفة التي زادت عن مليوني مصري تهتف كلها من أعماق روحها وكرامتها المجروحة طوال ثلاثين عاما من حكم الدكتاتور "يسقط يسقط حسنى مبارك".

في الساعة الحادية عشرة من ليل ذات اليوم، كنت أتجول في الميدان بين التجمعات البشرية التي احتلت زواياه، كل كتلة في زاوية، كانت الأعداد الباقية من المظاهرة المليونية لا زالت وفيرة، بالتأكيد رحل الآتين من الأقاليم، كنت في انتظار خطاب حسنى مبارك الذي نوّه عنه مرارًا على قناة الجزيرة، مع الإشارة المتكررة إلى انه يحتوى أمرًا هامًا، لقد توقع معظم الناس أن تكون مناورته الجديدة هي التنحي والتنازل عن صلاحياته لنائبه قائد المخابرات السابق عمر سليمان، كنت أتابع انتظار الخطاب على شاشة ضخمة نُصبت على مبنى في الركن الشرقي من الميدان، ظهر حسنى مبارك على الشاشة داخل الديكور المعتاد، وبدأت بلاغته الرسمية في سرد خطابه، بدا طاعنًا في السن، ومصرًا على رطانته الرسمية التي كررها خلال ثلاثين عامًا ثم فاجأ الناس بوعد فاضح، وهو أنه لن يرشح نفسه في الرئاسة القادمة، وأنه لم يكن ينوى ذلك أصلا، وأنه يطلب السماح له بخدمة الشعب خلال الشهور الباقية من رئاسته بما يُرضي الله والوطن، وأنه يريد أن يعيش ويموت على تراب الوطن. أشعل خطابه الجانب الشرقي من الميدان غضبًا ورفضًا لهذه المناورة المفضوحة، بدا المشوار أمام الانتفاضة طويلاً جدًا وملبدًا بغيوم كثيرة، هبّت موجة إحباط خفيفة سرعان ما حاول الناس تجاوزها بالغناء والهتاف، رأيت لوحة تمت كتابتها من وحي الخطاب "حسني مبارك مش هيغور إحنا قاعدين تسع شهور"، وظهر مندسون من طرف الحزب الوطني، قيل إنهم يحاولون إثارة البلبلة في نفوس المتظاهرين، منهم امرأة شابه زعمت أن ابنها قد دهسه المتظاهرون، التف الناس حولها وهى تصرخ أن ابنها قد مات، حاولنا إفاقة الصبي، قال الجميع إنها تمثيلية الغرض منها البلبلة، وإنها كانت تهتف لحسنى مبارك وتقول "سبوه الكام شهر دول"، مشيتُ من الميدان و رأسي عامر بالأسئلة حول الانتفاضة الثورة... هذه ثورة على الفساد قام بها أبناء الطبقة الوسطى لبناء مجتمع ديمقراطي قائم على القانون وعلى تداول السلطة بالصندوق الانتخابي، وهذه فرصتهم الوحيدة هنا والآن.

حين اقتربت من البيت رأيت عم كمال عامل النظافة بسينما قصر النيل، قلت له مداعبًا: "أنت ماجيتش ليه تهتف ضد مبارك يا عم كمال؟" قال: "إحنا ناس غلابة يا بيه مالناش دعوه بالحاجات دي". صعدت إلى البيت بشعور شديد بالجوع والقلق حول ما سيأتي به الغد، وهل الارتباك الذي رايته بعد الخطاب يمكن أن يُحول اتجاهات الانتفاضة أو على الأقل يشقها؟

2 فبراير: اليوم الثامن من عمر الثورة
من البلكونة، من شريان شارع قصر النيل حوالي الساعة 11 صباحًا شاهدت مشاجرات ومناقشات حادة ما بين مؤيدي الحزب الوطني الذين يحاولون الاندساس في التحرير ومابين المحتجين، كان كلام الوطني يدور حول أنه لم يعد أحد في الميدان غير الإخوان المسلمين. قام شاب ثلاثيني بتوجيه كلامه لشاب يقف ضمن مجموعة صغيرة "يعنى هيفرضوا عليك تلبس جلابية قصيرة وبنطلون وتسيب بحيتك ويفرضوا على زوجتك النقاب أو الحجاب"، ومناقشة أخرى "يعنى عاجبك حال البلد اللي وقف؟ الموظفين ما قبضوش المرتبات/ والبنوك مقفولة، اللي في الميدان بيخربوا البلد، والبرادعي عميل لأمريكا وإسرائيل".

كما شاهدت حوالي عشرة سيارات تاكسي تدور حول تمثال طلعت حرب وتطلق كلاكسات احتفالية، وحولها حوالي ثلاثمائة شخص تهتف "بالروح بالدم نفديك يا مبارك"، كما بدا الشارع المغلق من ناحية الميدان يحاول معاودة مسيرته الطبيعية على خلاف الأيام السابقة، كما ردَّ عليّ أخيرًا ولأول مرة تليفون البقال، وقال لي إنهم سيعملون إلى حوالي الساعة الرابعة، كانت كلها إشارات مقلقة حول شكوك بخصوص بداية انقسام أو شروخ داخل الميدان، لكنني أرجئ ذلك إلى حين النزول إلى الميدان بعد قليل، أتذكر لافتة رأيتها في الميدان "سامحني يا رب كنت خايف وساكت على الظلم طول تلاتين سنة". أردتُ أن أقول إنني ربما كنت مكتئبًا وساكتًا، أكتب نصوصي القصيرة التي لا تعنى سوى من هُم مثلي، فالأفق مسدود بالتحالف ما بين رأس المال والسلطة، البلد سادتها الفجاجة والقسوة والنهب المنظم لثرواتها بالتجاور ما بين أقصى درجات الفقر وبيت الثراء الفاحش، بسيادة علاقات قائمة على الدعارة وعلى التعامل مع الرفض كجنون، بتحويل خريجي الجامعات إلى خدم للأثرياء الجهلاء. كنت صامتًا ويائسًا وهاربًا إلى الفن، أغار من هؤلاء الشباب الذين كسروا حاجز الخوف المستحيل، أغار من قدرتهم على تصور عالم آخر، ومن قدرتهم على البدء في تنفيذه، وهو ما لم يكن متاحًا لي.

أذهب إلى الميدان كصلاة يومية في ساحتهم، ساحة التحرير، وأشعر أن البلد يُعاد صنعها في ميدان التحرير، وأن هذه الوقفة لن يمكن لها أن تتكرر في حياتنا، ولا في حياة أولادنا، وبالتالي إما أن يُجتث النظام الفاسد الآن وإما إلى الذل الأبدي، كان هناك وعيًا بأن النظام سيخرج أشد شراسة، وأنه سيسعى إلى الانتقام من معارضيه، وأنه لن يترك السلطة إلى أجل غير مسمى. رأيت صباح اليوم التاسع لافتات تقول "أنصاف الثورات أكفان الشعوب"، ورأيت "شعب يصنع نصف ثورة يحفر قبره بيده"، في اليوم التاسع رحت أدخل الميدان من مدخل قصر النيل، كنت أسكن على بعد حوالي مائة خطوة من هذا المدخل، خضعتُ بترحاب للتفتيش وأبرزت بطاقتي أمام لجنة المتظاهرين، لكنني لاحظت أن بعض أفراد اللجنة من ذوي اللحى، بعد أن اجتزت التفتيش قلت لأحد أفراد اللجنة إن مَن جلبهم الوطني يقولون للناس إنه لم يعد في الميدان سوى الإخوان والاتجاهات الإسلامية، وإن هذا يضعف الوقفة الاحتجاجية لأنها ثورة ذات طابع وطني وتمثل كامل الطيف الوطني، وإن سرّ قوتها هو التعدد، وإنه لا يجب أن يكون واجهة البوابة معظمها من الملتحيين، رحّب الرجل بكلامي وقال لي إنه سيطرح هذه الفكرة وإنها ستُنفذ، اجتزت البوابة حوالي الساعة 12 ظهرًا، كان يمكنني رؤية حشود بشرية تكتظ في شارع شامبليون الذي يصب أمام المتحف مباشرة، كانوا من مؤيدي مبارك، ويتحفزون لدخول الميدان، وكانوا يهتفون "بالروح بالدم نفديك يا مبارك"، كانت تحجزهم عن دخول الميدان مدرعتان تسدان شارع شامبليون وبعض المتاريس، وأقام المتظاهرون في التحرير كردونًا بشريًا يقطع الميدان بالعرض، بحيث ينتهي الكردون إلى المدرعات الواقفة عند المتحف المصري، كما كان يمكن رؤية حشود أخرى قادمة من ناحية ميدان عبد المنعم رياض، كان الوضع قلقًا والحواجز هشّة وتُنبئ بكارثة إذا ما استطاع مؤيدو مبارك اقتحام الميدان فعلا والاختلاط بالمظاهرة، كانت الطائرة الهليكوبتر تطير بشكل دائم في الميدان على ارتفاع متوسط، لم تعاود طائرات إف 16 الظهور، كانت قد ظهرت طائرتي إف 16 يوم زيارة وزير الدفاع حسين طنطاوي لمبنى الإذاعة والتليفزيون، وطارتا على مستوى منخفض جدًا فخلخلت موجات الهواء فوق رؤسنا في الميدان، تخيلت للحظة أنها ستطلق الصواريخ على الميدان.

رحت أتقدم في أدغال الميدان جنوبًا إلى حيث الساحة أمام مجمع التحرير، إلى الساعة الواحدة ظهرًا كان كل شيء هادئ وطبيعي، كان يمكن ملاحظة أن الأعداد قلت عن يوم أمس بعد خطاب حسنى مبارك وإعلانه عن نيته عدم الترشح لفترة رئاسية جديدة، كان جمهورًا لا بأس به قد تعاطف إنسانيًا مع إعلانه أنه سيبقى ما بقي من ولا يته للإشراف على انتقال السلطة في البلاد، وإنه يرغب أن يموت في وطنه. اعتقد أن هذا الخطاب قد اجتذب قطاعًا من الناس معه قالوا "كلها ستة شهور ويرحل بلا دماء، وإن التعب لمدة ثمانية أيام كاف جدًا وعلينا العودة لمتابعة بيوتنا ومصالحنا"، وكان الباقون في الميدان ينوهون إلى أن هذه خدعة، وأنه سينقض على السلطة وعلى خصومه بشراسة، وأنه سيورث ابنه بكل تأكيد، فهو يخاف أن يخرج من السلطة لأنه سيُلاحق حتى بمعرفة المحكمة الجنائية الدولية.

جلستُ إلى جوار الناس في مساحة ضيقة خالية على الرصيف المواجه لمجمع المصالح الحكومية، كانت أعداد مَن يشغلون الرصيف أقل من اليوم السابق، حتى أنني وجدت مكانًا للجلوس، كنت مشغولا بأن الشباب الذين خرجوا يوم 25 يناير كانوا يهبون ضد الفساد الذي فاق كل الحدود والتصورات، حتى إنه جعل كل أجهزة الدولة تتآكل إلى مجرد الأشخاص المسيطرين عليها وتابعيهم، ومَن أراد أن يتلقى علاجًا أو تعليمًا أو حتى يدفن ذويه في قبر فعليه أن يجد واسطة، وأن من خرجوا يريدون إنشاء دولة ديمقراطية حديثة تحترم القانون وتقوم على مؤسسات حقيقية، كان من قاموا في أغلبهم من أبناء الطبقة المتوسطة المصرية اللذين أصابهم التآكل المادي أيضًا وتحول بعضهم إلى فقراء يقضون شؤونهم بالكاد، وكان يمكن رؤية البعض ممن ينتمون إلى الشرائح العليا من الطبقة الوسطى، قلت لنفسي إنهم أيضا يريدون بلدًا حقيقيًا يحترم القانون ويتسم بالحداثة وتداول السلطة على النمط الغربي، وكنت موقنًا أن الطبقات الشعبية الأكثر فقرًا سكان العشوائيات والإجراء باليومية وغيرهم مِن مصلحتهم وجود دولة ديمقراطية تحترم القانون، وسمعتُ أن الناس في دار السلام جنوب القاهرة، وهى من أكبر وأعرق عشوائيات القاهرة، قامت بتدمير قسم شرطة دار السلام، قلت للجالس إلى جواري إنه ينبغي في الشعارات المرفوعة الأخذ أيضًا بقضية الطبقات الأكثر فقرًا، قال لي إنه يعمل محاميًا وإنه حتى الطبقات الوسطى صارت من الفقراء، أشعلت سيجارة ورحت انظر إلى سماء فبراير القريبة، كانت الطائرة الهليكوبتر تدور مرارًا وتكرارًا، سرتُ إلى الكتلة البشرية شرق الميدان عند مطعم هارديز، كانت تردد الهتاف الشهير "الشعب يريد إسقاط النظام" وبصيغة أخرى "الشعب يريد إسقاط الرئيس"، طلب قائد المظاهرة في الميكروفون الوقوف دقيقة صمت على أرواح شهداء الانتفاضة، وقفت الدقيقة ثم عادت هتافات إسقاط النظام، رحتُ أسير بميل إلى الناحية الغربية من الميدان حيث فندق هيليتون والسور المعدني أزرق اللون الذي يحيط بمشروع إنشاء جراج التحرير، فوجئت بجمل وعدد من الأحصنة يمتطيها شباب وتشق طريقها وسط المتظاهرين إلى جنوب الميدان وسط ذهول شديد، تصورت أول الأمر أن هذه طريقة جديدة في التظاهر، خاصة وأنني رأيت أحد المتظاهرين يجر حصانًا وقد وضع لافتة على رأسه تقول "مش مصدقينك"، فضلا عن أن ميدان التحرير ممتلئ بالغناء والتمثيل ومختلف الأنشطة الفنية والاحتفالية، إلى أن عرفت أن الأحصنة والجمل تخص البلطجية الذين جاؤوا يؤيدون مبارك، وأنهم جاؤوا يحملون سيوفًا ويهاجمون المتظاهرين، وأنهم قبضوا عليهم وسلموهم للجيش، وأن الأحصنة والجمل في طريقها للتسليم للجيش، وقال لي شاب إن راكبي الأحصنة كانوا أمناء شرطة وعناصر من شرطة الداخلية السريين. على مسافة كان يتردد هتاف "مش هنمشي هووه يمشي"، ثم سمعت هرجًا شديدًا وتدافعًا يأتي من شمال الميدان باتجاه المتحف وميدان عبد المنعم رياض، رحت أشق طريقي إلى الأمام، فوجئت بالجموع التي كانت محتشدة في شارع شامبليون حين كنت داخلا المظاهرة قد اقتحمت الميدان والكردون البشرى وتداخلت وسط المظاهرة الرئيسية، وساد هرجٌ شديد، وراحوا يرددون "مش هيمشي مش هيمشي"، وفي ثانية فوجئت بميدان التحرير كله وقد بدا أنه يؤيد حسنى مبارك، اجتاحني الإحباط وقلت يا خسارة نجحوا في القضاء على أنبل وأجمل ما رايته في حياتي، لكن هذه لم تكن النهاية.

لقد تراجعت المظاهرة الثورية إلى الخلف جنوب الميدان، تركت مساحة فاصلة ما بين المظاهرتين، ثم صنعت كردونًا بشريًا خلفه مساحة فارغة ثم راح الكردون يتقدم إلى الأمام بشكل جماعي ويحرر جزءًا من المساحة التي اجتاحها المباركيون، وكلما حررت المظاهرة مساحة صُنع كردونًا جديدًا، وتركت خلفه مساحة فارغة تليها الحشود، وراح التقدم يجري هكذا، إلى أن تراجعت المظاهرة المباركية إلى ميدان عبد المنعم رياض بالتوازي مع جزء من الجدار الشرقي للمتحف المصري، ثم بدأت معركة الحجارة ومحاصرة الميدان من جميع مداخله، من عبد المنعم رياض وشامبليون وقصر النيل والبستان وشارع التحرير وطلعت حرب والقصر العيني وكوبري قصر النيل بدأت الحجارة تنهال من كل مداخل الميدان بكثافة كانت تتطاير في الجو وتسقط على رؤس المحتجين في الميدان، وبدأ المصابون يتساقطون بإصابات بالغة، كنت أرى أعداد المصابين تتزايد مع أصوات صراخ وهرولة بالمصابين إلى النقاط الطبية على أطراف الميدان، كما بدأ القبض على أعداد من البلطجية والهرولة بهم إلى مناطق تمركز مدرعات الجيش، سمعت امرأة مسنة تصرخ "مبارك خرب البيت وعمل فتنه بين ولادنا"، وأصوات أخرى تهتف غاضبة دا "ما عندوش مانع يحرق البلد كاملة من أجل الكرسي"، كان الغضب يتصاعد وبدأت مجاميع تخلع بلاط ورخام الميدان وتقوم بتكسيره إلى قطع صغيرة وتقوم مجموعات أخرى بنقله إلى الصفوف الأمامية على طول جبهات التقاذف بالحجارة على جميع مداخل الميدان، كان واضحا أن الحركة المضادة تريد إخلاء الميدان بأي ثمن وإعادة احتلاله، وهو ما أدركه المحتجون وبدؤوا معركة كبيرة لإحكام السيطرة على الميدان، وهى المعركة التي تكللت بالنصر بعد تضحيات مروعة، ولكن برفع سقف المطالب لحدود لا رجعة عنها، عند فجر اليوم العاشر حين راح الشهداء يتساقطون بالرصاص الذي يطلقه البلطجية من فوق كوبري أكتوبر أعلى ميدان الشهيد عبد المنعم رياض.

السبت 5 فبراير الساعة 9 صباحًا
اليوم 12 من أيام الثورة
أكتب بسرعة لأستبق فعل الذاكرة الخوان، الآن أنا في شقتي الكائنة بالدور الثالث بشارع قصر النيل، المشهد من البلكونة، برودة شتوية صباحية. كانت المتاريس الأربعة في مكانها، لكن اختفى المقلاع الخشبي، أين اختفى؟ كان المقلاع مكونًا من ثلاثة قوائم خشبية تلتقي كلها في نقطة رأسية، مثبت بين القوائم الثلاثة عارضة خشبية تحمل ذراعًا ينتهي بقصعة معدنية بغرض وضع الحجارة بها فإذا ما تم جذب ذراع المقلاع الخشبية لأسفل قام بقذف الطوب لأبعد نقطة، ربما تتجاوز أبعد بلطجي من مؤيدي مبارك في ميدان طلعت حرب، ولكن لماذا اختفى المقلاع؟ هل هو غير عملي؟ هل هدأت المعارك بعد الفضيحة الدولية لمعركة الجمل والأحصنة والسيوف والسنج، وبعد القذف بقنابل الملوتوف والرصاص الحي من فوق كوبري أكتوبر وميدان الشهيد عبد المنعم رياض ومن فوق بعض العمارات داخل ميدان التحرير ذاته؟

يقف صف بشرى على بعد عشرة أمتار من المتراس الأول الذي يحجز فوهة شارع قصر النيل عن الميدان، وأمام أفراد المتراس الأول خطٌ غليظ من الحجارة المعدة للقذف، وعلى بعد نحو عشرين مترا أخرى وقف صف بشري ينتهي طرفه الأيمن إلى جدار الجراج الضخم لشركة مصر لإدارة الأصول العقارية، وجانبه الأيمن إلى مشروع إنشاء فندق حيث تقف آلات الحفر العملاقة، وأمام هذا الصف حوالي خمسة وعشرين كومة من الحجارة المعدة للقذف، وعلى بعد حوالي عشرة أمتار من هذا الخط الدفاعي يبدأ المتراس الثاني المكون من قطع من الأخشاب والصفيح والحديد وأعمدة الإنارة المخلوعة والمشمع، كان كل متراس يتراوح ارتفاعه ما بين متر ونصف إلى ثلاثة أمتار، يلي المتراس الثاني شبكة من الأسلاك الشائكة التي شدت مابين عمودي الإنارة على الرصيفين شمالا ويمينًا، وبعد المبنى الذي تشغل طابقه الأرضي الخطوط الجوية السعودية، وعلى بعد عشرة أمتار أخرى شُد حبل غليظ أصفر اللون بين عمودي الإنارة، ثم امتد باقي شارع قصر النيل، وقبل أن يصب في ميدان طلعت حرب وضع متراس كبير على فوهة الميدان مكون من الشباك البلاستيكية والحديد والأخشاب والصفيح، طرف المتراس الأيمن هو الخطوط الجوية الفرنسية، وطرفه الأيسر جروبي، كان أفراد الإشارة أو "الناضورجية" يختفون في زوايا المباني وخلف المتاريس وفى مدخل الشارع الجانبي الضيق الذي يفصل عمارة الخطوط الجوية الفرنسية عن العمارة التي يوجد بها بار "استوريل"، وكان للشارع الضيق الذي قطعه متراس مرتفع نسبينًا أهمية إستراتيجية، حيث يؤدي لكشف التحركات في شارع طلعت حرب وشارع هدى شعراوي الذي يتعامد عليه، فإذا ما لاحظ فرد الإشارة أي تحرك مريب كما لو رأى مجموعة من أفراد الشرطة السرية في زى مدني أو مجموعة من البلطجية تحاول الوصول للميدان واختراق المتاريس، راح يضرب صفيح المتراس بقطعة خشب، وراح يطلق الصفير بوضع إصبعيه تحت لسانه، ومن ثم ينتقل الصفير إلى المتراس التالي ثم الذي بعده والذي بعده إلى أن يصل إلى ميدان التحرير حيث تنطلق مجموعة كبيرة لاحتلال مواقعها أمام أكوام الحجارة فإذا ما تبين أن الإنذار كاذب راح الأفراد أمام متراس المواجهة الأول يرفعون أيديهم إلى أعلى ويشيرون بها أن "انتهى"، فيعود الجميع أدراجه إلى مواقعه السابقة، على أن حركة الدخول والخروج تسير أثناء ذلك في النقاط الأمنية بتنظيم شديد، ولا تتوقف أبدا إلا في حالة اشتعال معركة تقاذف بالحجارة، حيث يتحول فضاء الشارع إلى قطع من الحجارة الطائرة كأنها المطر لا يكف عن التساقط، يتناهى إليَّ من التلفزيون خبر عاجل من قناة الجزيرة: انفجار خط أنابيب الغاز المؤدى إلى إسرائيل بالشيخ زويد بسيناء وحريق هائل. من البلكونة على يميني كان يمكنني رؤية شطر عرضي من ميدان التحرير واللافتة الضخمة لمشروع تطوير وتحديث فندق ريتز كارلتون وإحلال وتجديد المنطقة الخلفية ثم قطاع من الفندق ذاته وقد اقتلعت نوافذه، وعن يساري كان يمكنني رؤية تمثال طلعت حرب يتوسط الميدان الذي يحمل اسمه، كان ظهر السيد طلعت حرب تجاه ميدان التحرير، بينما وجهه يطل على امتداد شارع قصر النيل، الذي يصل إلى ميدان الزعيم الشاب مصطفى كامل، كانت الحركة الصباحية في بداياتها،على الجانب الأيمن من الطريق بوابات دخول من المتاريس، على كل باب متراس لجنة أمنية مكونة من نحو أربعة أفراد تقوم بالاطلاع على البطاقة والتفتيش الذاتي عن الأسلحة، وبعد اجتياز نحو أربعة بوابات أمنيه يمكن الدخول إلى الميدان، أذكر نفسي أن اليوم هو السبت 5 فبراير الصباح التالي لجمعة الرحيل، وأن بعض الإعلام الرسمي الذي يسيطر عليه النظام يتشدق بأن جمعة الرحيل المليونية انتهت ولم يرحل حسنى مبارك، من القطاع العرضي المتاح لي عبر البلكونة أرى أعدادًا قليلة من المترجلين وأرى البوابات تعمل وأن عدد القادمين قليل، طمأنت نفسي أن ذلك معتاد فاليوم هو التالي لوقفة مليونية، وأيضًا يوم إعداد لمليونية أخرى غدًا الأحد 6 فبراير، وهو اليوم الثالث عشر من عمر الثورة. أحاول تجاوز القلق وما تصورته نبرة حزن في صوت أحمد اللباد، وأنا أتحدث إليه منذ ساعة على الموبايل قال إنه لم ينم، وإنه كان سهرانًا في "ميريت"، وقال إنه لاحظ أن الناس تعبت في الميدان، سارعت إلى القول "دا مش صحيح، والثورة دي بتحركها طاقة متجددة"، الحقيقة كنت أقول هذا الكلام لنفسي لا للباد، فالحكاية طالت والهجمة المرتدة تعلمت الخبث، وتراهن على الوقت، وقد دست ناسًا داخل المظاهرة يدعون إلى الإنهاء وإلى الاكتفاء بما تم، كنت أتصور أن هذا النظام الذي عاش وشاخ داخل سلطة قمعية لا تتورع عن فعل أي شيء، نظام له مجرميه وبلطجيته جاهزون وقت الحاجة، نظام له أتباعه الذين استفادوا منه، وله مؤيدين فعلا، لطول عهدي باليأس كان يخايلني دائمًا في كل منعطف، كنت أبحث عن لحظة يمكنني القول فيها بثقة عن استحالة العودة إلى الماضي، وكنت موقنًا إلى الساعة ونحن في اليوم الثاني عشر من الثورة أن مبارك لو تُركت له الفرصة وانتهت الثورة لاستعاد نظامه وكافة مشاريعه بما فيها توريث ابنه الحكم ولصار أشد شراسة وبطشًا بخصومهـ ولأنشأ نظامًا قمعيًا جديدًا غير قابل للزوال، ولنال تعاطف الغرب، فالأنظمة المؤيدة تميل إذا ما مالت مركب الثورة، وهكذا أشعر أن الثورة تسير على منحدر زلق أو تصعد حائطًا زجاجيًا غير مسموح لها بالسقوط وإلا صارت هي الجريمة ولصار القائمون بها هم المجرمون الذين تُنصب لهم المشانق في الميدان.

السبت 5 فبراير الساعة 1,20 ظهرًا
اليوم 12 من عمر الثورة
لم أخرج بعد للمظاهرة، كل يوم أقضى في الميدان من ثلاث إلى أربع ساعات، أنزل إلى الميدان وداخلي شعور أنني أرغب في عمل شيء ما، شيء كبير بحجم الثورة، أذرع الميدان جيئة وذهابًا بحثا عن شيء ما، كأن ثمة شيء ينتظرني لأفعله فأصبح جزءًا من هذا الشيء الذي يتخلق أمامي، لا يمكنني أخذ قطعة من هذى الشيء، أسير في مظاهرة وأردد الهتافات رافعًا ذراعي لأعلى "يا سوزان صحي البيه كيلو العدس بعشره جنيه"، أو أقف في مظاهرة ثابتة مثل المظاهرة الضخمة شرق الميدان أمام مطعم هاردييز أو تلك التي أمام كنتاكي وأردد بحماس "هيلا هيلا هيلا والليله آخر ليله"، ولا يمكن اقتناص الشيء، بالرغم من ذلك لا أتصور عدم الذهاب، شغف غريب يجتذبني للعودة دائمًا، رغم العناء، رغم الخطورة الشديدة، رغم اجتياز البوابات الأمنية العنيد والخضوع للتفتيش الذاتي، وأتوجس دائمًا من انفضاض هذا الشيء، لذلك أرغب في تسجيل أكبر قدر ممكن مما رأيت، لا يمكنني التعويل على الذاكرة فقط، ربما اكتفيت اليوم بالكتابة وبمراقبة المشهد من البلكونة... الآن يقوم المختصون بالمتاريس الأربعة في شارع قصر النيل بالإمساك بمقشات وكنس الشارع، لقد كنسوا مساحة كبيرة، أكيد ما دفعهم لذلك هو الهدوء النسبي، على جبهات قذف الحجارة، لا ظهور اليوم للبلطجية أمام متراس طلعت حرب، صارت هذه اللجان الأمنية، هي المسيطرة في محيط وسط البلد على مرحلتين: الأولى، حين ابتلع الحوت جميع قوى الأمن المركزي والبوليس المصري فاختفى من جميع محافظات ونجوع وقرى وشوارع وحارات جمهورية مصر العربية في تمام الساعة الخامسة من يوم جمعة الغضب، والثانية، يوم الأربعاء المسمى "موقعة الجمل".

بالأمس نزلت إلى مليونية الرحيل مع صديقي الشاعر إبراهيم السيد، كان هناك متوقعًا إن هذا اليوم الأخير للنظام، قال إبراهيم: "إن هذا النظام قد حمل وزر جميع خطايا ثورة يوليو، وأن من خرجوا ضده منذ يوم 25 يناير، لم يكونوا ضد نظامه فقط بل ضد النظام الذي أنشأه الضباط سنة 1952". قلت: "لكن لا بد تحصل خناقة كبيرة بعد نجاح الثورة بين من قاموا بها، الاختلافات كثيرة"، وأشرت إلى كثرة الإخوان، قال: "لن يبقى اتجاه على حاله، فالإخوانى سار جنبا إلى جنب مع باقي الاتجاهات، ورأى زميله يقتل إلى جواره، وأحيانًا دفاعًا عنه، ورأى فتيات جميلات يرتدين ملابس حديثة وضيقة "مزز يعني" وشباب يصففون شعورهم على هيئة ذيل حصان، والجميع يقومون بنفس الدور وفى نفس الخندق فوق إسفلت ميدان التحرير". كنت قلقًا من أن يخذل الناس التوقع المليوني يوم جمعة الرحيل، قال إبراهيم "إن البلطجية ومباحث أمن الدولة تمنع الناس على مداخل القاهرة من الوصول إلى ميدان التحرير"، كنا مندهشين من موقف الجيش، فلا يمكن أن تلقى زجاجة ملتوف من البلطجية على دبابة وتمسك بها النار ويقف على الحياد، ذهبنا إلى تجمع من المتظاهرين حول دبابة بالقرب من المتحف كان الجيش قد قلص الجزء الشمالي من ميدان التحرير المؤدى إلى ميدان عبد المنعم رياض ووضع به سلكا شائكا ومنع المتظاهرين من الوصول إليه وكانت هذه المنطقة أشرس جبهات القتال التي تحصن بها البلطجية يوم الأربعاء الدامي، وبها سقط الكثير من الشهداء والجرحى، حين حاول بعض أعضاء اللجان اجتياز هذا الحاجز للسيطرة عليه ولكونه امتدادا طبيعيا للتظاهرة وللجبهة ضد البلطجية، انبرى مقدم أمام دبابة وأشار بيده إلى جنوب ميدان التحرير قائلا "كده أقدر أحميك"، ثم أشار إلى شمال الميدان وقال "كده أنا مش مسؤول عنك وما أقدرش أحميك"، ثم قال "هنا البلطجية والسيوف وولاد...". تلفت حولي بحثًا عن إبراهيم، لم أجد له أثرًا، دائمًا كلما خرجت مع أحد تهنا من بعضنا في الزحمة، رحت أسير تجاه غرب الميدان، الساعة حوالي الواحدة والنصف ظهرًا، تقريبًا انتهت صلاة الجمعة في أغلب مساجد القاهرة، كما انتهت الصلاة في الميدان، ولا زال عدد المتظاهرين أقل من يوم جمعة المليونية الأولى، سمعت أحد المتظاهرين يتصل على الموبايل يسأل شخصًا "هو العدد بقى كام على قناة الجزيرة؟" وعند ما رد عليه الصوت قال "لا، هاتي الجزيرة أو قناة المستقلة"، سألته "قالتلك كام؟" قال "القنوات الحكومية تقول خمسة آلاف". كانت الحشود حولي تزيد عن النصف مليون، تتكتل أغلبها جنوب الميدان أمام مجمع التحرير وجنوب شرق الميدان، لاحظت وجود كاميرا في الدور قبل الأخير في الركن الشرقي بالعمارة الضخمة التي يوجد بها محل هارديز، بعد أن قام البلطجية والأمن بسحب جميع الكاميرات من الميدان وإطلاق تحذير للصحفيين الأجانب بمغادرة الفنادق المطلة عن الميدان، رجحت أن هذه الكاميرا تخص الجزيرة وإنها نجحت في زرعها في هذا المكان، وشعرت بالارتياح لذلك فهذه الثورة التي انطلقت اعتمادًا على الوسائط الحديثة تظل في حاجة لهذه الوسائط في معركتها ضد نظام متحجر ولا يستحى، لكنه يحسب حسابه للصورة التي سيراها الغرب، والغرب ذاته يتمنى لو أن هذه الصورة لم تصل ولم يرها جمهوره، لقد لاحظت صباحًا تغيرًا في المشهد الذي تبثه الجزيرة لميدان التحرير تبعًا لتغير مكان الكاميرا، جلست على الرصيف المواجه لمجمع التحرير، كانت الأعداد نتزايد ببطء، تذكرت رجلا ستينيًا رأيته في المساء السابق على المليونية الثانية، كان نحيلا ويتكلم بصوت خفيض وبتأتأة خفيفة، كان يحمل حقيبة جلدية قديمة كان لا زال إلى جانبي على رصيف الحديقة المواجهة لمجمع التحرير مساحة فارغة تتسع لشخص استأذنني في الجلوس في المساحة الباقية إلى جواري، كان يبدو موظفًا في الضرائب العقارية على المعاش أو مدرس ابتدائي قديم أحيل للمعاش أيضًا، سألني عما إذا كان يوجد محل قريب يشتري منه سجائر قلت له إن ذلك صعب جدًا لأن الأمر يتضمن العبور ببوابات عديدة للتفتيش عند العودة فضلا عن وجود البلطجية عند بعض المخارج، وأن المحلات أغلبها قد أغلق بسبب حظر التجول، وعرضت عليه سيجارة من علبتي التي بقى فيها سيجارتان، رفض بحزم رغم عرضي عدة مرات، اقترب مني وقال إنه ليس من القاهرة، وإنه لا يحب هذه البلد، ولا يعرف فيها أي شيء، وإنه من الإسكندرية وأنه يعرف ميدان رمسيس لأنه المكان الذي يراه عندما ينزل من القطار، وإنه يعرف دار القضاء العالي، وإنه ركب "مشروعا" من رمسيس وأنزله بالقرب من دار القضاء العالي، وهناك تلقاه أشخاص كثيرون وراحوا يسلمونه لبعضهم، من أشخاص بملابس مدنيه إلى أشخاص بملابس عسكرية، وأنهم أدخلوه إلى عربه ثم أنزلوه منها، وقالوا له بعد أن أخذوا بطاقته إنه سينتظر إلى حين قدوم الرائد، وقال إنه هاج عليهم، وراح يزعق فيهم فقد تركوه ينتظر عدة ساعات، قال لما شفت الأولاد دول وأشار على المتظاهرين على التليفزيون بيحاربوا عشانا قلت لو لسه يوم في حياتي لازم أعيشه بكرامه، كان شكله وخجله يوحي أنه لا يمكن أن يزعق فيهم، وأنا أنصت إليه محاولا اكتشاف تفاصيل حكايته رن الموبايل في يدي فقمت و فتحركت نحو ثلاثة أمتار بعيدا عنه لأتكلم براحتي، عندما انتهيت عدت إلى المكان فلم أجده، راحت أعداد المتظاهرين تتزايد من كل مداخل ميدان التحرير خاصة مدخل كوبري قصر النيل، كان شريانًا لا ينقطع يأتي من الجيزة، عبر الكوبري وعلى جانبي الطريق اصطفت جماهير من المتظاهرين يستقبلون القادمين من الجيزة بالهتاف وبتحريك الأعلام "مرحب مرحب بالثوار اللي انضموا للأحرار"، بينما كاميرات الموبايل وكاميرات بعض الأجانب من شتى الجنسيات تلتقط صورًا للمشهد، فيما يرفع بعض الوافدين يده بعلامة النصر، قرب المغرب كانت المليونية قد اكتملت وفاضت بلغت التقديرات وفقا لقناة الجزيرة رقما يزيد عن المليون ونصف أما المتظاهرين فقد قدروها على أنها تزيد عن المليونية الأولى، أي أنها بلغت أكثر من اثنين مليون ونصف.

المتاريس الموجودة تحت بيتي رايتها جنوب غرب الميدان حين ذهبت أشق الكتل المليونية ليوم جمعة الرحيل باحثًا عن دورة مياه لأتبول بها، كان المتراس الذي يسد الميدان من هذه الناحية يقطع عرض الطريق المؤدي لميدان سيمون بوليفار ويوصل ما بين جدار جامع عمر مكرم وجدار مجمع التحرير، ولا أعرف ما إذا كان هناك متاريس أخرى تجاه فندق شيبرد أو لا، رأيت شابًا يتبول إلى جوار جدار المجمع في النقطة المغلقة من الحاجز الأمني رحت أمشى إلى جوار المتراس مفكرا أن أفعل مثله، لكنى أعرف نفسي، لا يمكنني التبول أمام كل هذا العدد من البشر سيحتبس البول داخلي، فكرت في اجتياز الحاجز الأمني بحثًا عن مكان آخر، لكن فكرة تعرضي للتفتيش مجددًا جعلتني أصرف النظر عن ذلك، لم أفكر في دورة مياه جامع عمر مكرم أصلا، فقد كانت صلاة المغرب قائمة وكان منتظري دخول دورة المياه للوضوء طوابير يستحيل أن تلمح نهايتها، تحت إلحاح ضغط البول قررت التوجه إلى البيت ثم العودة بعد فترة راحة، رحت اخترق الحشود البشرية لأصل إلى بوابة قصر النيل، بعد ما يزيد عن ربع الساعة وصلت إلى بوابة الخروج وانزلقت منها بيسر، قبل أن أخطو خطواتي الأولى راحت المتاريس تدق، وانطلق الصفير، وفوجئت بحشود ضخمة تجرى شرقًا تجاه ميدان طلعت حرب، احتميت بجدار شركة " ايجيتراف" للسياحة عن يساري منتظرا هطول الحجارة فوق راسي.

الأحد 6 فبراير الساعة 1,30 ظهرًا
رأيت رجلاً خمسينيًا يرتدي بذلة أنيقة، تتكتل عليه الجموع لطرده، فقد اكتشف أنه تابع للوطني، وأنه يدعوا الشباب ويحاول إقناعهم بفض المظاهرة، كاد الرجل يسقط على الأرض ثم خرج من بوابة قصر النيل، كان النظام لا يكف عن إرسال مبعوثين من كل نوع، كان يقين الجميع أنه لا يوجد مقتنع حقيقي بالنظام سوى اللصوص والبلطجية، وعلى فرض وجود هذا الشخص فعليه أن يبحث عن مكان آخر غير ميدان التحرير الذي تم تحريره بدماء شهداء وجرحى.

أمطار خفيفة... رأيت أعدادًا من المتظاهرين يسيرون في تشكيل واحد متماسك يضعون مشمعًا شفافًا فوق رؤوسهم، ويستمرون في الهتاف "الشعب يريد إسقاط النظام".

الاثنين 7 فبراير الساعة 12,30 ظهرًا
دقٌ حاد على متاريس شارع قصر النيل، في اليوم الرابع عشر للانتفاضة، أسرعت إلى البلكونة، أفراد من البوابات الأمنية يدقون بقطع من الحجارة والأخشاب والحديد على قطع الصاج الداخلة في تركيب متاريس الشارع، وعلى أعمدة الإنارة وعلى الأبواب الصاج للمحلات المغلقة، وانطلق الصفير الحاد والإشارات بالأيدي أن: تعالوا بسرعة، ونداءات تنبيه يتم تكبيرها بوضع اليدين رأسيًا حول الفم "اصحى"، استجاب مَن في الميدان بسرعة، وراحوا يتدافعون تجاه متراس طلعت حرب الذي يُعد نقطة مواجهة رئيسية مع البلطجية. فقد نشأت هذه الاستحكامات لأول مرة بمعرفة اللجان الشعبية التي نشأت بعد الاختفاء المفاجئ للشرطة من جميع أنحاء مصر حوالي الساعة السادسة مساء الجمعة 28 يناير، وهو يوم جمعة الغضب الذي سقط فيه الكثير من القتلى والجرحى برصاص الشرطة، وبالدهس بالسيارات في مواقع عديدة، منها كوبري قصر النيل وشارع القصر العيني، وتعرض فيه المتحف للاقتحام والسرقة أثناء وجود الجيش حول المتحف. لقد كان اختفاءً غريبًا أوحى لي وقتها بانهيار السلطة وانتصار الثورة، لكن تزامنَ اختفاء الشرطة حوالي الساعة السادسة مع إعلان حسنى مبارك بصفته الحاكم العسكري فرض حظر التجول من الساعة السادسة مساءً حتى الساعة السابعة من صباح السبت 26 يناير. بدأت اللجان الشعبية عملها من مساء السبت بعد أن بدأت الأنباء تتواتر منذ ليل جمعة الغضب، و من جميع أنحاء مصر حول هروب المساجين، وحرق أقسام الشرطة، كان كل شيء غامضًا حول هذا الاختفاء في تلك الليلة، لقد اكتفيت ليلتها بإحكام غلق باب الشقة بالمزلاج الحديدي الذي يميز أبواب عمارات القاهرة الخديوية. عندما استيقظت صباحًا كانت الأنباء في وسائل الإعلام عن اختفاء الشرطة وأعمال السلب والنهب وعمليات سطو مسلح في كل مكان، كنت ساكنًا جديدًا في العمارة وكنت لا أعرف معظم جيراني، كانت فكرتي عنهم أنهم آباء وأمهات طاعنون في السن، وأنهم على المعاش، وأن أبناءهم تزوجوا وسكنوا في شقق بعيدة، ليلة السبت كنت عائدًا إلى العمارة عصرًا فوجدت الباب الحديدي مغلقًا، اندهشت، من فجوة في الباب رأيت مجموعة شباب يعالجون قفلاً متصلاً بسلسلة حديدية صدئة وغليظة فتحوا الباب وهم يتساءلون في صمت عمن أكون، وكنت أتساءل بدوري عمن يُعيق بهذه الجرأة سيولة الدخول للعمارة التي لا تنغلق أبدًا، خاصة وأن بها الكثير من الشركات ومكاتب السياحة وعيادات الأطباء، بادرتهم قائلا "أنا ساكن فوق"، تدخل رجل بدين بنظارة سميكة كان نازلاً لتوه على السلم، وكنت ركبت معه مرة الأسانسير، "دا اللي ساكن مطرح طنط عايدة"، كان وقع كلمة طنط منه غريبًا ومبالغًا فيه، لكنه منحنى دعمًا قويًا لتوجيه السؤال "هووه فيه إيه؟" قال أحد الثلاثة، وكانت أعمارهم في أواسط الثلاثينيات "بنحط قفل على الباب، أنت شايف ماعدش فيه شرطة في البلد"، قلت "والدخول والخروج هيكون إزاي؟" قال أحدهم وكان يرتدي ترننج أزرق وكان بشوشًا وبصلعة خفيفة،" تعرف أستاذ رجب اللي في الدور الرابع" قلت كيفما اتفق "آه"، قال "أنا ابنه، اسمي أحمد خد رقم الموبايل لو عاوز تدخل في أي وقت اتصل"، وأشار إلى زميليه "إحنا مش هنام هانكون حراسة على العمارة"، ثم قال "هنحط مفتاح القفل في أودة البواب للي عايز يخرج بالنهار"، لما كنت أقيم وحدي فلم أهتم كثيرًا، أخذت رقم الموبايل وصعدت، منذ هذه اللحظة بدأت اللجان الشعبية تعمل، وبدأ تداول كلمة سر، وكانت حركتي قد تحددت في ثلاثة أماكن كلها قريبة من بعضها، "دار ميريت" للنشر في المدخل الآخر للعمارة، و"ميدان التحرير" وأخيرا سوق "باب اللوق"، كنت أدخل وأخرج بيسر لأن أحدهم كان موجودًا دائمًا، أحذوا بعض الحواجز الخاصة بشرطة المرور، ووضعوها بعرض الشارع رغم عدم وجود أي حركة للسيارات، كما شدوا في موقع آخر سلكًا معدنيًا بين عمودي إنارة، على جانبي الشارع، كانت هذه الاستحكامات تختفي مع دخول النهار، وكان هذا الجزء من شارع قصر النيل – الذي يبدأ بالنسبة للقادم من ميدان طلعت حرب بجروبي يمينا، والخطوط الجوية الفرنسية يسارًا، وينتهي عند ميدان التحرير- شبه خال كالمعتاد يومي الجمعة والسبت لكونهما يوما إجازة، وكان المتظاهرون قد بدؤوا المبيت في الميدان بكثافة منذ مساء الجمعة، الذي واكب اختفاء الشرطة، وبدء ظهور الجيش، وبدءًا من نهار السبت بدأ المتظاهرون في الميدان يديرون حركة سير السيارات بدلا من رجال المرور الذين ابتلعهم الوحش، إلى أن كان يوم الأربعاء 2 فبراير، تغير وجه الميدان ربما إلى الأبد. كان ذلك في اليوم الثامن من عمر الانتفاضة، وهو اليوم الذي واكب ظهور الجمل والأحصنة والسيوف في قلب مظاهرة التحرير، وهو اليوم الذي أقيمت فيه المتاريس الثابتة وراحت تكسب أرضًا جديدة لأيام عديدة، قبل أن تتوقف في نقاط ثابتة، كما أنه اليوم الذي توقفت فيه حركة سير السيارات بالميدان عدا مدرعات الجيش التي اتخذت نقاطًا شبه ثابتة، وبعض سيارات الإسعاف التي سمح لها بالدخول في أحوال نادرة، وبعد تفتيشها بمعرفة اللجان الأمنية لحمل بعض المصابين ذوي الحالات الخطرة والتي لا يمكن علاجها بمعرفة النقاط الطبية داخل الميدان، على أن بعض المصابين كانوا يرفضون الصعود لسيارة الإسعاف مخافة أن تقوم بتسليمهم لنظام مبارك، فقد انعدمت الثقة في ممثلي نظامه، على أنه كسب تعاطف عددًا لا بأس به بعد خطابه الذي استدر به الدموع، حتى إن مذيعة تلفزيونية تتمتع بذكاء إعلامي من النوع الرائج في برامج التوك شو، بكت على الهواء حين أعلن الديكتاتور أنه يرغب في الموت على تراب بلاده، حين بدا طاعنًا في السن ومهزومًا وخاليا من أي غطرسة أو وعيد، لم يستمتع بالتعاطف طويلا فقد اقتحم البلطجية في اليوم التالي ميدان التحرير على ظهور الدواب وفى أيديهم السنج والسيوف والعصي، وهم البلطجية ذاتهم الذين ضبط بعضهم يحملون ذخيرة من النوع الذي كان يستخدمه عناصر الشرطة ضد المتظاهرين قبل انسحابهم وتمترسهم في محيط وزارة الداخلية. وهم ذات البلطجية الذين قذفوا قنابل الملوتوف على المتظاهرين وعلى المتحف المصري وحتى على مدرعات الجيش وأطلقوا الرصاص الحي والحجارة من ميدان عبد المنعم رياض ومن فوق كوبري أكتوبر وأسقطوا الكثير من الجرحى والقتلى.

في اليوم الثامن للانتفاضة كانت ألسنة النار لا زالت مشتعلة في بعض طوابق الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم المطل على المتحف والميدان رغم جهود الجيش في الإطفاء، وفى اليوم الثامن بدأت ملامح الميدان تتغير فقد أغلقت جميع المداخل بالمتاريس وعناصر من المدرعات، شرقًا من شارع محمد محمود حيث الواجهة البحرية للجامعة الأمريكية، وشارع التحرير، وشارع طلعت حرب، ثم شارع البستان الذي سدته عربة أمن مركزي محترقة ومتاريس أخرى، وشارع قصر النيل ثم شارع شامبليون الذي ظل وضعه قلقًا حيث جاء منه الهجوم الأول للبلطجية يوم الأربعاء الدامي، كما أنه الشارع الذي ظلت تسده دبابة ومدرعة طوال الوقت فضلا عن المتاريس التي تسبق المدرعات وتسد تقاطع شامبليون مع الانتكخانة، وعلى هذا الشارع تتعامد حوالي ثمانية مدرعات بين دبابة وعربة مدرعة على شكل حرف (L) الجزء العمودي من الحرف يرتكز على جدار المتحف المصري، والجزء الأفقي يتعامد على شارع شامبليون ويترك مساحة خالية للنفاذ إلى ميدان عبد المنعم رياض مقر أكبر المعارك في الميدان والذي تحصن فيه البلطجية طوال ليل اليوم الثامن وحتى وفجر اليوم التاسع، واعتبر الجيش أن هذا سببًا كافية للتمركز في هذه المنطقة واقتصاصها من الميدان رغم مقاومة المتظاهرين، لكن سرعان ما استسلموا أمام الجيش وكانت ذريعته أنه هنا لحماية المتظاهرين من البلطجية، في اليوم الثامن أيضا تمركز الجيش في المدخل الجنوبي وحده على فوهة شارع القصر العيني وصنع هناك نقطة أمنية من عدة أفراد مسلحين ببنادق آلية، كما أقام المتظاهرون متراسًا وبوابة أمنية مابين منتصف جدار جامع عمر مكرم و الجدار الغربي لمجمع التحرير تلته أسلاك شائكة ومتاريس أخرى، ووقفت مدرعتان في ميدان سيمون بوليفار، أما المدخل الغربي وهو شريان كوبري قصر النيل فقد سدته عدة مدرعات مابين دبابة وعربة مدرعة كما أقيمت عليه بوابة خروج من الميدان وبوابة دخول، وهكذا في صباح اليوم التاسع ظهرت إلى النور دولة ميدان التحرير المحررة، لا يمكن دخولها إلا بالتفتيش وإبراز بطاقة الهوية، أذكر في صباح اليوم الثامن، قبل أن أذهب إلى الميدان، كنت ارقب المشهد من البلكونة، كانت بوادر هجمة من البلطجية تتكون، وكانوا يحاولون الاقتراب من الميدان سمعت أحدهم يصرخ مهيجًا بعض الذاهبين للميدان هما عملوه دولة؟ رغم أن المتاريس الثابتة لم تكن قد ظهرت بعد اكتفاءً بالحوائط البشرية التي تفحص الهويات خشية دخول عناصر من الأمن أو الشرطة السرية ولكن ظهر للجميع ولوسائل الإعلام أن من يسيطرون على الميدان هم المتظاهرون ضد حكم مبارك. هكذا كنت أسير وسط الحشود بالأمس 6 فبراير قضيت بالميدان حوالي أربع ساعات أو يزيد، من الساعة الواحدة ظهرا إلى نحو السادسة والنصف التقيت أصدقاء عديدين في المظاهرة: أحمد عوني من تيار التجديد الاشتراكي، شريف عبد المجيد، أسامة الرحيمى، عزت القمحاوى، لاحظت عددًا كبيرًا من باعة السجائر والسوداني واللب والبطاطا وسندوتشات وكشرى وصحف وكسكسى وشاي، وتكاثرت معارض رسومات كاريكاتير، ورأيت أعدادا مليونية وهتافات " الجدع جدع والجبان جبان وإحنا يا جدع هنموت في الميدان" ولافتات "مبارك يا ويكا أنت وسوزى على أمريكا" وكلام حول الوجوه غير المصرية، كأن يقابلني صديق ويقول "أنا شاكك فيك أنت ملامحك إيرانيه أو أفغانيه"، فقد راحت وسائل الإعلام الحكومي ترهب الأغلبية الصامتة بأن المتظاهرين في الميدان إيرانيون وأفغان للإيحاء بتبعيتهم للقاعدة والإرهاب وطالبان أو لدولة الملالي وولاية الفقيه، ورأيت لافته يرفعها مواطن مصري "ارحل بقى عشان أمنية ومها يعيشوا بكرامة"، وصورة مها على اليمين وأمنية على اليسار ولافته "دكتوراه في العناد..عند أمك يا بارد"، و رجل يرتدي طاقية شبيكة بيضاء وسوستة بنطلونه مفتوحة يحمل لافتة "معقولة قبل 25 يناير ما كنتش أعرف أكلم أمين شرطه دلوقتى بطلب إقالة رئيس الجمهورية"، ولافته "كل الكذب حصري على التليفزيون المصري"، ورأيت عربة الأمن المركزي المحترقة أمام جامع عمر مكرم وقد تحولت إلى مقر للحزب الحاكم بعد أن حولها المتظاهرون إلى مقلب لزبالة الميدان" ومرسوم على جدارها حسنى مبارك يمد يده لقارئة الكف التي تقول له قدامك سكة سفر "ألمانيا"، وبالحجارة مرسوم على إسفلت الميدان "GO OUT" وترجمتها بالروسي والألماني والفرنسي، "يا مبارك ياللا العار ثروتك 70 مليار"، ولافتة مرسوم عليها خبر السبعين مليار و سلفني شكرًا، ونكتة "حين مات حسنى مبارك التقى بعبد الناصر والسادات في الآخرة سألوه سم ولا منصة قال لهم فيس بوك"، كان مدير المنطقة المركزية الوسطى للجيش قد زار الميدان في اليوم السابق على يوم الشهيد وطلب من المتظاهرين فض المظاهرة، والحفاظ على ما بقى من مصر، ورد عليه المتظاهرون بأن الشعب يريد إسقاط النظام، وحين انصرف بدأت حشود عسكرية جديدة تتوافد على الميدان، وسمعت أن الجيش بدأ في عمليات اعتقال لبعض المتظاهرين وفى مليونية الشهيد رأيت المتظاهرين ينامون حول الدبابات والعربات المدرعة في كل المواقع عند المتحف وجامعة الدول العربية وشامبليون والتحرير وكانوا يغنون ويهتفون أمام الدبابات، كانت هناك تخوفات قويّة من أن الجيش يريد محاصرة المتظاهرين في جزء من الميدان لفتح عدة شوارع وتسيير حركة المرور والتعامل مع الجزء الباقي من الميدان كحديقة هابد بارك للمحتجين، وعندما عدت إلى البيت للاستراحة سمعت زخات رصاص عالية تأتى من الميدان جريت إلى البلكونة ظنًا منى أن النظام بدأ في قتل المتظاهرين وأن المذبحة ابتدأت، وفوجئت أن الخارجين من بوابات الخروج يسرعون بالعودة تجاه مصدر إطلاق النار بدلا من الهرب، اتصلت بأحمد عوني لأعرف سبب إطلاق الرصاص، كان قد خرج بدوره وقال إنه سيعمل اتصال ويرد عليّ. أعلنت الجزيرة في الحال عبر مراسليها أن الجيش كان يحاول إعطاء فسحة من مكان لحركة الدبابات بوضع أسلاك شائكة لكن نام المتظاهرون حولها فاعتقل الجيش اثنين، واليوم 7 فبراير لم أخرج من البيت إلا في نحو السابعة مساء بسبب سيارتي المركونة في مدخل سينما قصر النيل لمدة ستة أيام، يريد مستأجر السينما إخراجها، ولسيارتي هذه قصة، فلم أكن مَن وضعها في مدخل سينما ومسرح قصر النيل حيث مرّت يوما ما كوكب الشرق لتحيى العديد من حفلاتها، ومرّ جمال عبد الناصر والعديد من أعضاء مجلس قيادة الثورة، والكثير من سيدات وسادة ذاك الزمان، الذين كانوا يرتدون ملابسهم الرسمية الوقورة ويستمعون لآهات الست وهم في انفعال رومانسي رائق، لا أعلم ما إذا كان الرجل الذي يظهر في تسجيلاتها قائلا "عظمة على عظمة يا ست" مرّ من حيث تقف سيارتي المحطمة أم لا؟ أعتقد أن سيارتي حطمت عوضًا عنى، ففي اليوم الثامن حاصر البلطجية جميع مداخل الميدان وراحوا يقذفون الحجارة وكان الجرحى قد بدؤوا يتساقطون في كل مكان وبدا أن إصابات بعضهم خطيرة، وكنت أبحث عن منفذ للخروج من الميدان إلى البيت دون جدوى ثم بدأت زجاجات الملوتوف تتساقط، كان كل شيء ينبئ بمذبحة تحت سمع وبصر الجيش، رحت أتسلل بحذر إلى بوابة الخروج الخاصة بشارع قصر النيل، كانت الأحجار تتساقط في الهواء من الجانبين، على البعد رأيت سيارتي المركونة تحت البلكونة تتحطم بقذائف من الجانبين، جاءت لحظة هدوء نسبى فرحت أجري باتجاه البيت بينما يجري المتظاهرون بقطع من الصاج والحديد والأخشاب ينتزعونها من الأسوار ومن أي شيء متاح ويصنعون منها متراسًا ينصبونه في المنطقة المحررة من الشارع، جريت إلى السيارة وأدرتها ثم توقفت حائرًا لا يُوجد مكان أذهب إليه، والأحجار عادت للتساقط من جديد بدرجة أقل من ذي قبل، جاءني أحد المتظاهرين حين رأى حيرتي، وأنزلني من السيارة وفجأة رأيته بغوص بها في مدخل سينما قصر النيل ثم عاد وأعطاني المفتاح، جريت إلى باب عمارتي كان مغلقًا، خبطت على الباب يائسًا، أطل على وجه لا أعرفه من الكوة التي بالباب قلت له افتح نظر إلى مذعورًا أنت مين؟ قلت له أنا فلان لم يعرفني وتراجع بعيدًا عن الباب، حاولت الاتصال بأحمد رجب لم أهتد أبدا إلى رقمه رغم أنني سجلته على الموبايل، بعد برهة طويلة لا تُصدق كان أحمد يفتح لي الباب بحذر حتى لا يدخل أحد آخر خلفي. هكذا شاهدت تحرير مداخل ميدان التحرير بعيني بإقامة متاريس متعددة على كل المداخل، كما شاهدت سيارتي المركونة تحت العمارة تتحطم بوابل من الحجارة.

في البلكونة أقف حائرًا ما بين الذهاب إلى الميدان وبين تسجيل ما أرى استباقًا لفعل الذاكرة، حين جاء المتظاهرون من ميدان التحرير على أصوات التنبيه والصراخ "اصحي" راحوا يلتقطون الحجارة من الأكوام الموزعة في أنحاء الشارع، صرخ فيهم بعض مطلقي التنبيه أن يلقوا الحجارة أرضا فالثورة حريصة على أن تكون "سلمية" وعلى ألا تبدأ بالعدوان ضد البلطجية، تجمعت مجموعة كبيرة أمام متراس قصر النيل المطل على ميدان طلعت حرب ما بين الخطوط الجوية الفرنسية وكافيه جروبي، ثم راحوا يهتفون "بلطجية.. بلطجية" ثم ظهر تجمع في الناحية الأخرى من المتراس، كان التجمع مظاهرة مؤيدة لمبارك راحت تتوجه إلى المدخل الآخر للميدان من ناحية شارع طلعت حرب، تراجع جزء ممن جاؤوا لحماية المتراس وراحوا يدخلون من ممر بار "استوريل" ليدعموا متراس طلعت حرب الذي توجه إليه متظاهرو مبارك، واللذين لا يمكنني رؤيتهم الآن من البلكونة. هذا هو الصباح التالي ليوم الشهيد المليوني، ثلاثة تنبيهات على متراس ميدان طلعت حرب ما بين الساعة التاسعة والنصف صباحًا إلى الحادية عشرة والنصف، ظننت أن هذه عودة جديدة للبلطجية بعد اختفائهم في الأيام الفائتة، رغم الفضيحة وتعهد رئيس الوزراء الجديد بعدم تكرار ذلك، ولكن لم يظهر البلطجية خلال هذه التنبيهات الثلاثة، كان من يثير القلق البعض من أصحاب المحلات اللذين يريدون الوصول لمقار أعمالهم وشركاتهم ولا يستطيعون بسبب الحواجز الأمنية.

الاثنين 7 فبراير. الساعة 11,20 ليلا
ذهبت إلى ميريت، كانوا يتابعون الجزيرة على مدار الساعة وهي تقدم بثًا مباشرًا من الميدان، دارت مناقشة مع مجدي الشافعي وسأل ماذا نفعل، قلت إن الأحداث كشفت أن الحكام عصابة من المجرمين، ويراهنون على الصامتين الراضين بالاستقرار مع الظلم، وقلتُ المحكمة الجنائية الدولية، وقلت إن على المظاهرة تطوير نفسها، وإن عندي خوف من تحويلها إلى حركة مطلبية، أو مولد شعبي مثل مولد السيدة زينب، وقلت أنني ارتحت حين رأيت لافته ظهرت لأول مرة يوم 6 فبراير الساعة الثانية ظهرا يوم أحد الشهيد "لا تفاوض ولا تمثيل إلا بعد الرحيل ... لا حكماء ولا إخوان المطالب في الميدان"، وإن هذا هو رد الميدان العاجل على ذهاب الإخوان للتفاوض مع نظام فقد شرعيته، وعلمت بالإفراج عن وائل غنيم صاحب صفحة كلنا خالد سعيد، قضيت نحو ساعتين في الميدان شاهدت الناس ينامون في الخيام وانتابني القلق من فكرة عزلة الميدان وتحوله إلى مولد شعبي، رأيت خيمة مكتوب عليها خيمة اللجنة الشعبية لمدينة ومركز دسوق إلى جوار الواجهة الغربية من مجمع التحرير، وخيام منصوبة في حديقة جامع عمر مكرم، ومواقد كهربية وجدران من المشمع والبطاطين وبوسترات ضخمة للشهداء، وبوستر للضابط محمد البطران الذي قُتل بيد زملائه لرفضه فتح سجن الفيوم، وسمعت من مكبرات صوت أغاني لداليدا، حلوة يا بلدي، وحدوته مصرية لمحمد منير، ومناقشة بين ضابط جيش شاب ومجموعة تلتف حول دبابة في مدخل شارع شامبليون وقول أحد الرجال للضابط "دا كرنفال يا باشا" ثم توجيه كلامه للواقفين "لو صدرت أوامر للباشا أن يضرب المتظاهرين لن يضرب"، صمت الضابط كأنه لم يستمع، قال أحد المتظاهرين "لكن فيه ناس هاتضرب"، وجاءني اتصال من صديقي أحمد يقول إن زوجته منذ الأيام الأولى رفضت الطلوع على الهواء وإذاعة الأكاذيب على شاشة التلفزيون الحكومي، حول أن كل شيء هادئ، وأن عدد المتظاهرين في تناقص، وأنهم لا يزيدون عن عدة آلاف، و إنها لن تذهب إلى مبنى التليفزيون مهما حدث.

الثلاثاء 8 فبراير العاشرة صباحًا
مفاجأة صباحية، أصبح بيتي خارج حدود دولة ميدان التحرير، لقد تحرك متراس المواجهة الكبير الثابت على فوهة ميدان طلعت حرب، إلى ما قبل باب جراج شركة مصر للتأمين وفي منتصف واجهة الخطوط الجوية السعودية، يلي متراس المواجهة سلك شائك ثابت كما هو، استجد متراس آخر قوي على بعد حوالي 25 مترًا من متراس الخطوط الجوية السعودية، كان المتراس مكونًا من مقاطع كاملة من الحديد المشغول تم انتزاعها بالكامل من سور مشروع إنشاء الفندق المطل على شارعي قصر النيل وشامبليون، ومدعم بقطع أخرى من الصاج، يلي هذا المتراس، مساحة خالية ثم المتراس الثابت على فوهة ميدان التحرير، وبالتالي أصبح جزءًا كبيرًا من شارع قصر النيل – بدءًا من الخطوط الجوية الفرنسية وكافيه جروبي إلى الخطوط الجوية السعودية وسينما قصر النيل – خاليًا من أية متاريس ومفتوحًا لحركة الناس والسيارات. صارت الحركة من ميدان طلعت حرب – المقر المفضل لهجمات البلطجية – إلى محور قصر النيل بلا أية عوائق، ومن ثم أصبح هذا الجزء من الشارع خارج حدود دولة ميدان التحرير، وأصبح بيتي والبلكونة التي أطل منها خارج الحدود، تحول الشارع المفتوح من طرف واحد إلى جراج للسيارات، وخاصة لسيارات ضيوف الميدان، والتوريدات من مياه معدنية وبطاطين ومأكولات وأدوية ومشمع للخيام وكافة أنواع الدعم، وقد اكتمل هذا الوضع الجديد حوالي الساعة الواحدة ظهرا، لم أبتهج أول الأمر بهذا التعديل، فقد صارت المسافة من متراس المواجهة أقصر بكثير بحيث يمكن لحجارة البلطجية أن تصيب رؤوس المتظاهرين في الميدان مباشرة، كما إنني بخروج بيتي من دولة الميدان صرت أقع تحت طائلة قرار إعادة انتشار الشرطة، وهوا القرار الذي وقفت ضده علنًا في دار ميريت وسط حشد من المثقفين، الأمر الذي دعا محمد هاشم إلى الغضب والزعم أن الثورة أصابتنا بالجنون، وأنه يريد أن تنزل الشرطة حتى يفرغ الناس للتظاهر بدلا من البقاء لحراسة بيوتهم، وكانت حجتي هي أن هؤلاء ليسوا شرطه أبدا، وإنهم ذراع النظام للبطش والنهب، اتهمني هاشم بأنني فوضوي، وأنني لا أختلف عن البعض ممن رآهم في الميدان، وحين احتكمت إلى المخرج مجدي أحمد علي أيّد محمد هاشم، انصرفت يومها حانقًا من رغبتهم في الاعتماد على جهاز أمني أطلق المساجين ودعاهم لمهاجمة الناس وسرقتهم وترويعهم. كنتُ الأكثر دراية بهم فهم جيراني منذ الطفولة، فقد كان قسم شرطة دمياط يُطل على بيتنا، كانوا يسيرون وحولهم هالة السلطة، وكان يُطلب قربهم بالنقود، غير أن ما يستقر في أيديهم سرعان ما يتبخر، كان معروفًا عن مدينة دمياط أنها جنّة الشرطي، فهناك يتمتع بالمهابة والنقود والنساء، فالمستقر أن الدمياطي يهاب السلطة ويريد اجتنابها بأي ثمن، فإذا ما استدعى للقسم لأي سبب يشعر أن مصيبة وقعت فوق رأسه، ولأفرغ كل ما في جيوبه للمخبرين وأمناء الشرطة، وإذا ما جاء أحد للسؤال عليه اضطر للدفع بدوره، وإلا لخرج بقلم على قفاه، أو بمحضر من أي نوع إن عاجلا أو آجلا، كما كانت دمياط مطمحًا لضباط الشرطة الشباب القادمين من محافظات أخرى، حيث يمكنه أن يتزوج إحدى بنات تاجر موبيليات كبير مجانًا، فمجرد بدلة الضابط كافية لإغماض العين بترحاب عن كافة التزامات العريس، فبهذه البدلة يجتنب التاجر الحكومة إلى الأبد، فضلا عن انسحاب المهابة عليه.

بيد أن عقل الثورة كان يتحرك تبعًا للتحولات السياسية في مصر والعالم، وكانت فضيحة موقعة الجمل – على المستوى الدولي – قد حدّت من قدرة النظام على البطش، في لحظة تحول النظام إلى كيان يتلقى الضربات بنجاح بالغ، وبذهول جعله يزداد في التخبط وكلما حاول امتلاك خطاب جديد تهاوى سريعًا، وكانت الثورة تجنى المكاسب تباعًا فالقرار الجريء بتحريك متراس قصر النيل أكسب الثورة تعاطف أصحاب الشركات والمحلات والجراجات في الشارع وخفف العبء عن اللجان الأمنية بتقصير المسافة المطلوب مراقبتها.

خبر عاجل الساعة 2,05 ظهرا
مستطيل أحمر أسفل شاشة قناة الجزيرة يتضمن خبرًا عاجلا: المتظاهرون يحيطون بمجلس الشعب، وتجمعات كبيرة في شارع رمسيس، رأيت ذلك تطورًا نوعيًا كبيرًا، يكسر عزلة الميدان التي سعى إليها النظام كثيرا، ويحافظ على زخم المبادأة مع خصم انهزم في معركة ميدان التحرير يوم جمعة الغضب.

مليونية الثلاثاء في أسبوع الصمود
نزلت إلى الميدان حوالي الرابعة بعد الظهر، أعداد فاقت كل المليونيات السابقة، جماعات فئوية، محامون، أساتذة جامعات، عمال يتحدثون عن التأميم، وأزهريون يتحدثون عن العصيان المدني، وقانونيون يتحدثون عن استعادة أموال مبارك التي نهبها والتي بلغت 70 مليار دولار، بقيت إلى حوالي الخامسة والنصف، وسط زحام كثيف، سيدات بشعر فضي يتحدثن بالإنجليزية والفرنسية مع مراسلي وكالات الأنباء، منقبات يخطبن في مظاهرات حاشدة، أطفال يقودون مظاهرات، بنات صغيرات على أكتاف أبائهن، يرفعن أعلام مصر، باعة لكل شيء، مكبرات صوت وسماعات قوية في كل مكان، منصات خشبية جديدة تنشأ في أماكن مختلفة، كان يبدو أن المسيرة لا زالت طويلة، وأن مبارك يتشبث بالحكم لخوفه من المحاكمة على جرائمه وأسرته طوال ثلاثين عامًا، لقد صارت معظم الأيام مليونية دون دعوة، بدا أن الميدان يكتسب جمهورًا إضافيًا كلَّ يوم، كان شريان كوبري قصر النيل لا يتوقف، يتدفق منه القادمون من الجيزة. رجعت متعبًا، شعور بالانتفاخ والغازات، أكلت عند فلفلة ملوخية وسلطه خضراء، ذهب إلى البيت للراحة، نزلت مرة أخرى في التاسعة لأقابل مجدي الشافعي في المظاهرة عند كنتاكي ولأتعرف على مجموعة 6 إبريل، بحثت عنه كثيرًا ولم أجده، مشيت في جميع أركان الميدان، أمام مجمع التحرير سمعت خطيبًا خمسينيًا يخطب في الحشد بلغة صارمة ودون مواربة، كان يقول أنتم تقولون الجيش والشعب إيد واحدة ماشى، لكن علينا ألا ننسى أن مبارك هو قائد الجيش، وأن الجيش هنا في الميدان بأمر من مبارك، ومن أجل حماية نظامه، و أننا هنا مستعدون للاستشهاد، فاجأتني هذه اللهجة القوية ضد الجيش الذي يقف على مقربة منا بدباباته، كان الخطيب يعكس روحًا جذرية، تنبه إلى أن الجيش قد يكون عدوًا، وأننا يجب أن نكون مستعدين لما هو أبعد من التظاهر السلمي، حتى لو أدى الأمر إلى حرب شوارع، كان هذا النوع من الخطاب ينطق لأول مرة علنًا في الميدان، رأيت سعد القرش يستمع بالقرب مني، نظرت إليه مذهولا قلت: "شفت الجرأة؟" قال: "كلام جديد جدًا"، سرت إلى شرق الميدان أمام هاردييز، رأيت شابًا يتلو بيانًا، قال بحماس شديد إنه بيان عمال مصر، كان الجمهور فاترًا، فلم يسمع أحد في المظاهرة عن عمال مصر حتى اليوم، وراح يتلو البيان رغم الفتور، كان يتحدث بلهجة تنتمي إلى ستينيات القرن الماضي، تبدو نشازًا داخل مظاهرة الطبقة الوسطى المصرية، فالبيان يطالب بتأميم كافة مصانع وشركات القطاع العام التي تم بيعها في عهد مبارك، وإلى مصادرة أموال عدد من رجال الأعمال واعتبارها ملكًا للشعب، لم يجد الخطاب تجاوبًا، وحاول أحد مديري المنصة تجاوز هذا الفتور بالقطع على البيان الطويل بتشغيل أغنية، إلا أن الخطيب الشاب نهره وقال في المايك "دا بيان عمال مصر يعنى لازم ينقرا"، وبالفعل بدأ تلاوة البيان وأنهاه بلهجة من يفجر قنبلة، هي أن عمال مصر ومن بينهم عمال الحديد والصلب سيسيرون مظاهرة حاشدة إلى مليونية جمعة التحدي، بالفعل كانت هذه مفاجأة فلم يظهر عمال مصر بشكل بارز ومنظم – في حدود علمي – داخل مظاهرة التحرير قبل اليوم، وقد جاءت هذه المبادرة ضمن موجة ظهور فئات مهنية مختلفة مؤخرًا داخل المظاهرة، على أن خطاب التأميم كان اصطلاحًا تبنته السلطة الناصرية التي نشأت 1952 وطورت نوعًا من السلطة – في ظني – ظل سائدا إلى نهاية حكم مبارك، هذا النمط تحديدًا هو ما ثار عليه من بدؤوا هذه الثورة وحددوا شعاراتها منذ اللحظة الأولى، ومن ثم كان الفتور تجاه خطاب التأميم، وظهوره بمظهر من يريد إحياء موتى غير مرغوب بهم، في حين بدا خطاب الإخوان ذي الجذور السلفية خطابًا معتدلا ومقبولا داخل سياق المظاهرة، وهو الأمر الذي أدهشني قليلا، فروح الطبقة الوسطى المصرية تسير في اتجاهات متعددة في اللحظة ذاتها، تبدو ظاهريًا متضاربة لكنها تحمل الجين الوراثي ذاته. هل هذا ما جعلني حين وقفت أمام كاميرا صديقي المخرج فوزي صالح أرفض ترديد هتافه "عاش كفاح الطبقة العاملة"، وأفضل ترديد هتاف "عاش كفاح الشعب المصري" حتى يستوعب الطبقة الوسطى داخل سياقه؟ رأيت مجموعة من المتظاهرين تحمل بطاطين جديدة وتدعوا الناس للذهاب إلى مجلسي الشعب والشورى، لم أكن ذهبت هناك من قبل، وكنت سمعت أن عددًا من المتظاهرين ذهبوا إلى هناك منذ الأمس، لتوسيع سبل الضغط على النظام، ولكسر عزلة مظاهرة التحرير داخل نطاق الميدان، اخترقت مع الذاهبين متاريس شارع محمد محمود ثم انحرفنا يسارًا، كان السير من منفذ عمر مكرم وصولا إلى القصر العيني صعبًا جدا نظرا لكثافة الأعداد والزحام الشديد مما دعا الذاهبين إلى اجتياز الطريق الطويل، كانت المدرعات تسد مجموعة من الشوارع في محيط مجلس الشعب ووزارة الصحة ورئاسة مجلس الوزراء، لكن كانت اللجان الأمنية من المتظاهرين هي التي تقوم بعمليات التفتيش وتشرف على بوابات الدخول والخروج،. حين اجتزت التفتيش، رأيت حوالي خمسة آلاف متظاهر، ورأيت خيامًا منصوبة للمبيت، وقرأت لافتة معلقة على الباب الحديدي لمجلس الشعب "مغلق لحين رحيل النظام"، خرجت من بوابة الخروج وسط مجموعة إلى شارع القصر العيني، رأيت مدرعات الجيش والحواجز المعدنية أمام بوابات مجلس الشورى، اتجهنا يسارًا إلى الشارع المؤدي إلى ميدان سيمون بوليفار، سرنا خلف مبنى مجمع التحرير، ودخلت الميدان بعد التفتيش على بوابة عمر مكرم.

الثلاثاء 8 فبراير الساعة 11 ليلا
ميدان التحرير
برودة الجو أشعرتني برغبة ملحة في كوب شاي دافئ، جلست على رصيف بالقرب من مبنى جامعة الدول العربية، إلى جوار فتاة تجلس على الرصيف أمام "ترمس" لإعداد الشاي، كانت مكبرات الصوت تذيع أغاني للشيخ إمام، وعبد الحليم، كانت الأكواب البلاستيكية البيضاء مرصوصة على الأرض وبها مقادير من الشاي والسكر، كانت الفتاة في أوائل العشرينيات ممتلئة وترتدي بنطلون جينز أزرق و"تونك" طويل وتلف رأسها بطرحة متعددة الألوان، وعينها اليسرى متورمة، وتحت الجفن السفلى قوس أزرق واضح، كان يقف إلى جوارها شاب يظهر ويختفي ويعطيها الأوامر بحزم، كانت تنفذ الأوامر دون أن تنظر إليه، وتوجه كلامها للزبائن وهى تضحك بصوت مرتفع، طلبت منها كوب شاي سكر خفيف، ارتبكت قليلا فالأكواب المعدة كلها بها مقدار واحد من السكر والشاي، كانت تضحك وتقول "ابقوا قابلوني لو حد أخد حقه"، أفرغت الماء الساخن في كوب من الأكواب المعدة وقدمته لي، قلت: "أنا عايز سكر خفيف"، قالت: "أنا قلبته نص تقليبه"، أخذت الكوب وسألتها: "بتضحكى على إيه؟". قالت: "أنا بضحك على الناس اللي سابوها لغاية ما خربت وجابين دلوقت يدوروا على حقهم". جلس إلى جواري شاب في أواسط العشرينيات سألني عن قلم، قدمت له قلمي، فهمت منه أنه يحتاجه لفترة قد تطول، قلت له إنني أدون به ملاحظات، قال إنه يدون أيضًا، وأرجع لي القلم. بدا أنه يريد أن يتكلم، سألته: "أنت هنا من زمان؟" قال إنه هنا من يوم 28 يناير، وإنه لم يغادر الميدان إلا مرة واحدة ذهب فيها لناس أقاربه في فيصل ليستحم لأنه من كفر الشيخ، وإنه شعر ساعتها بالذنب وعاد سريعًا إلى الميدان، قال "هنا بلاقي نفسي، وبلاقي ناس وتعاملات عمري ما شفتها". وعرفت أنه يبيت في الميدان ولا يرغب في المغادرة، كان له لحية صغيرة ويستخدم في كلامه ألفاظًا واستشهادات دينية، سألته: "أنت إخوان؟" قال: "لا" ولكن دينه يدعوه لعدم السكوت على الظلم، وأنه هنا يبيت على الرصيف في عز البرد ويأكل أي مأكولات متاحة ويشرب من زجاجة مرت على أفواه العشرات قبله، ويقضى حاجته إلى جوار أي حائط، وهو ما لم يكن يتخيل حدوثه في بيتهم بكفر الشيخ، قلت له: "إن قبول الإخوان وبعض رموز المعارضة الرسمية المتهرئة التفاوض مع نظام فاقد الشرعية قد عقّد مسيرة الميدان وأطال المعركة دون داع، وأعطى النظام فرصة لالتقاط الأنفاس، ولأن يحصل على دعم أمريكا وإسرائيل في المحيط الدولي"، غادرت جلسة الشاي وأنا أتساءل عن النهايات المحتملة لثورة لم تكن في الحسبان حتى بالنسبة لمن قاموا بها، وعن احتمالات اختطافها وبيعها وحتى خيانتها، بدا أن النظام كسب جولة مهمة، تغيرت تصريحات أمريكا من التأكيد على النقل الفوري للسلطة إلى حث النظام على توسيع دائرة الحوار مع المعارضة وعلى اتخاذ المزيد من الخطوات، ازدادت تصريحات النظام جرأة، وازدادت وسائل الإعلام الحكومي شراسة في بث أخبار كاذبة عن مجريات الثورة في الميدان.

رحت أشق طريقي إلى مدخل قصر النيل، كان طعم الشاي الرديء في فمي، بينما يردد مجموعة هتاف "سلمية..سلمية" لفض مشادة مابين متظاهرين ودخيل راحوا يقودونه إلى إحدى بوابات الخروج، وأنا في الأسانسيير الخشبي القديم، كانت علامة استفهام كبيرة حول كيف يمكن أن تبقى الأمور سلمية.

الأربعاء 9 فبراير اليوم 16 من عمر الثورة
صباحًا في الشقة
شمس صباحية دافئة، ينتشر الضوء من باب البلكونة المفتوح ويصل حتى الكنبة المواجهة للمكتبة، بدأت عربات النظافة والعمال في زيهم الموحد بالظهور في الجزء الخالي من المتاريس، أزال النوم جزءًا من هواجسي مساء أمس، لكنى لا زلت قلقًا حول النهايات المحتملة، كما لا زلت غير قادر في أوقات كثيرة على تصور أن هذا الشيء الذي يجري هو ثورة، تنصرف تخيلاتي أحيانًا إلى دولة مدنية حديثة، برلمان حقيقي و حكم ديمقراطي عبر رئيس وزراء قوي ورئيس دولة شرفي بدون سلطات، تعليم راقي، وصناعات نامية، وانفجار حقيقي للحق في حرية التعبير في كافة صوره، تشوش تخيلاتي، عناصر الثورة المضادة ومشهد بلطجية موقعة الجمل الذين نشأوا في العشوائيات، وقدرة تحالف النظام ورجال الأعمال على استقطابهم للقيام بالضرب والقتل والسرقة والتخريب، أضبط نفسي وقد تماديت فالنظام لا زال رازحًا، وعمر سليمان بدا أكثر تصميمًا على البقاء من رئيسه الطاعن في السن، فضلا عن أنه حديث عهد بمقعد لم يختبر بعد إمكانياته المحتملة.

عائلة يحمل أطفالها ورودًا ويتقدمون الأب والأم إلى بوابة الدخول للميدان، عاد "أنور" سايس السيارات بعد أن اختفى منذ يوم 25 يناير، كانت مهمته الآن أكثر أهمية فالشارع مفتوح من طرف واحد، وتقفل العربات الوافدة على العربات الواقفة بالفعل فإذا ما أرادت سيارة في أول الصفوف الخروج احتاجت لما يشبه عملية جراحية يقوم بها أنور للنفاذ بالسيارة من المساحة الطولية الضيقة التي تركت كيفما اتفق وسط الشارع والتي تعدت عليها بعض السيارات، ربما تصادف أن مفتاح إحدى السيارات معه، يعطى بثقة إشارة لمن يريد الخروج، يزيح العربة صاحبة المفتاح ويفسح طريقًا للخروج، على أن عم حندوقة، وولده وعيد وأشقائه، وعم شعبان وهم السياس الأقدم والأكثر سطوة لم يظهروا بعد.

أخبار الجزيرة تتوالى منذ الأمس عن اعتداءات من الشرطة في الوادي الجديد، وأنباء عن قتلى وجرحى، رغم تعهد رئيس الوزراء الجديد بعدم حدوث اعتداءات بعد موقعة الجمل، من البلكونة أرى قطاعًا عرضيًا من ميدان التحرير، والمتظاهرون يحملون الأعلام واللافتات ويسيرون في مجاميع حاشدة، رغم أن اليوم هو التالي لوقفة مليونية، وهو اليوم السادس عشر من عمر الانتفاضة، هل تحول الميدان إلى مزار للنزهة، والتقاط الصور التذكارية، هل تحول إلى تظاهرة تشبه المولد الشعبي، السيدة زينب مثلا، لم أخرج، وربما لن أخرج اليوم ، أشعر أنني في حاجة للابتعاد قليلاً، حين خرجت في مظاهرة اليوم الأول، كنت موقنًا أن الأمر سينتهي بعد ساعتين على الأكثر ثم نعود للسبات إلى حين إشعار آخر، وإذا بنا في اليوم السادس عشر، أعتقد أن النظام كان سببًا رئيسًا وراء ذلك، فقد لجأ إلى القوة الغاشمة منذ اللحظة الأولى بدلا من الإيحاء بها، فبدا أنه آلة يمكن أن تنكسر ويمكن أن تنهك، كما بدا أنه قوة فقط، مما أثار الحنق بسبب الإصابات الكثيرة منذ اليوم الأول.

هدّد عمر سيلمان بالانقلاب العسكري، إما الحوار مع المعارضة والتفاوض وإما شبح الانقلاب العسكري، خطأ آخر يرتكبه النظام المتهاوي، لهفته على التفاوض وفقًا لتعليمات البيت الأبيض، أوقعته في خطاب التهديد أمام وسائل الأعلام، وكشفت ذعر النظام وحاجته إلى منقذ، كأن الدكتاتور وأعوانه كانوا يبحثون فينا عن الشعب الذي عرفوه طويلا، كانوا يستنجدون بنا، ما الذي جرى لكم، مَن فعل بكم هذا؟ كان الدكتاتور يستعطفنا في خطابه التليفزيوني الذي أعلن فيه رغبته في الموت على تراب بلاده، كان يتمنى علينا أن نعود إلى سابق عهدنا وألا نتركه يُغير فكرته عنّا، كان علينا أن ننقذ الدكتاتور، وأن نهبه الشعب الذي حكمه لمدة ثلاثين عامًا، لأن الديكتاتور لا يخطئ، لا يمكن أن يكون قد أخطأ في تحديد ماهية شعبه، مشهد الجلاد وهو يتذلل للضحية جياش بالمشاعر، ربما أكثر من دهس المتظاهرين بسيارات الأمن المركزي، وثقب رؤوس العزل في منطقة الجبهة برصاص القناصة بالبنادق التلسكوبية، ورمي المصليين بقنابل الغاز وخراطيم المياه فوق كوبري قصر النيل، فالضحايا هم أصلا ضحايا وعصاة، سعوا نحو حتفهم بالوقوف أمام آلة الدكتاتور الأب.

لم أخرج اليوم، ربما قضيت باقي اليوم في الكتابة.

أي كلام أقل مما يحدث الآن على أرض التحرير، يمنعني الانفعال من اتخاذ المسافة الضرورية للتعبير عما أرى، على الرغم من أن جانبًا ممن في الميدان هم نفس الناس الذين أعرف منذ زمن طويل، هم من خضع طويلا وداهن وهادن وتملق وانحنى أمام الريح ، حتى تتجاوزهم المصائب، لمجرد أن يتركوا يتنفسون، لمجرد أن يجدوا رغيف العيش، ويشربون مياها ملوثة، ويتركون ليموتوا على ما يعتقدون بالسرطان أو بغيره، وأذهل مما كشفوا عنه في الميدان من عبقرية وصلابة وتحضر، كأنما يعتذرون عن سنوات صمتهم، وأذهل من مدى جرم أعدائهم ورغبتهم المحمومة في تكبيلهم وإذلالهم، ليستمرون فيما هم عليه، جوهر جرم من حكموا هو أنهم لسبب ما أو لأسباب شتى، بناء على رغبتهم، أو رغبة غيرهم، أو رغبات الجميع، لم يريدوا، بتصميم، لهذا الشعب أن يفيق من غيبوبته، وأن يكتشف ذاته، وأن ينفض عن نفسه الذل والهوان الذي يرزح تحت نيره.

يتناهى إلىّ من ميدان التحرير الإيقاع الموزون لأصوات المتظاهرين" مش هنمشى هووه يمشى"، حين أغيب عن المظاهرة تلوح لي أشباح اليأس والتآمر، سرعان ما يزول هذا الشعور حين انزل إلى الميدان، أرى المظاهرة في كامل عنفوانها كأنها بدأت للتو، أكثر من ذلك أرى إجابة على كل أسئلتي، حتى تلك التي لم أجرؤ على البوح بها لنفسي لشدة سوداويتها، وليقيني أن ما نواجهه هو سلطة غشيمة، لن تسلم قيل أن تستخدم كل ما لديها من أسلحة. أرى اللوحات والشعارات والرسومات وفد تغيرت لتواجه المواقف والأسئلة والمخاوف الجديدة، ولتبث روحا من النشاط والحيوية، كأنما جددت المظاهرة ذاتها، ورفعت لوحاتها وشعاراتها الجديدة لتبعث الطمأنينة في نفسي، وتزيل هواجسي حول التاريخ الدامي للثورات العظمى المجهضة، والتآمر وسرعة التهاوي والانقلاب إلى اليأس والانتقام، كلما نزلت إلى التحرير تجدد شعوري بالقدرة على هزيمة الخوف، وعلى تصور واقع جديد، خالٍ من الديكتاتور ورموز حكمه، وسلطته القمعية التي تم تنشئتها على أن الناس العزل هم " الأعداء"، وأن الطريقة الوحيدة للتعامل معهم هي اهانتهم وسحلهم ودهسهم وإطلاق الرصاص الحي عليهم.

لم أخرج من البيت طوال اليوم السادس عشر، كنت أتابع على شاشة الجزيرة ومن البلكونة وأرى جماهير المظاهرة الجدد من عائلات وربات بيوت يرتدون ملابس جديدة ويدخلون إلى المظاهرة كما لو كنّا في عيد، كان أمامي شعبًا عجيبًا لم تتح لي رؤيته على هذا النحو... كان معظمهم مجرد أولاد المباريات الكبرى للأهلي والزمالك والمنتخب القومي، بالرغم من ذلك كانوا عظامًا كما لو أنهم تمثلوا كل دهاء التاريخ ومأساويته وقاموا بتجاوزه بروح مصرية خالصة، حتى أن هذه الثورة بدت كثيرًا أنها ليست ثورة وأنها تظاهرة شعبية أو تظاهرة تشبه زحام معرض الكتاب، أو مولد السيدة زينب، أو السيد البدوي، أو مهرجانًا للفنون الشعبية أو السامر، تشبه كل شيء، وبالرغم من ذلك لا تكف عن أن تكون ثورة، يكتشف القائمون بها ماهيتها وهم يمارسونها ويتفاعلون معها فيكبرون وتكبر بهم، ليس لها حزب، ولا قائد. زعيمها الشاب الذي سمعنا عنه كثيرا أثناء اعتقاله لمدة 12 يوم حين أفرج عنه، وظهر على التليفزيون بدا ولدًا في حاجة لمن يطبطب عليه ويدعه يلهو أمام اللاب توب، لأنه لا يوجد قائد، لأن عبقرية هذه الثورة المصرية أن الكل قائد حتى من حضر، وشارك لمدة دقائق، كونت هذه الثورة أكبر حزب سري في التاريخ، هو حزب الشعب المصري الذي تظنه أهبلا، أو مستكينًا أو سايق العبط على الهبالة، ومن فجر هذا الحزب السري أنه جعل ميعاد الثورة ليس سرًا، وراح يؤلف على الميعاد النكت ويتندر بها على الفيس بوك، كان الأصدقاء يعلقون "هي الثورة الساعة كم؟"، "مش هاقدر آجي الثورة الصبح عندي ميعاد، مش هتكون شغالة لبعد الظهر؟"، هي الثورة هتبقى فين؟"، "أنا رايح الثورة بكرة من 5:9".

وقد اعتمدت ثورة هذا الحزب على رصيد بشري هائل فقد كان يُنزل الجماهير تباعًا دون دعوة فالأغلبية التي أطلق عليها الأغلبية الصامتة لم تكن صامته ولا حاجة، كانت تنتظر بدورها النزول إلى الميدان إذا ما تعب أو أعتقل أو استشهد من نزلوا، كان رصيدًا حرًا قابلا للاستدعاء في أي وقت، كانوا يحضرون بروحهم التي اختبأت اختباءً استراتيجيًا مدروسًا ثم يعبّرون... "مستشفى التحرير خلع الضرس 25 جنيه خلع مبارك 25 يناير"، "فليسقط أبرهة وهبل"، "صورة صورة كلنا كده عايزين صورة"، "أصله ماعداش على مصر". على لافتة شرق الميدان "إقالة مبارك، إنهاء حالة الطوارئ فورًا، جمعية تأسيسية لدستور جديد، حكومة انتقالية من شخصيات مستقلة عن الحزب الحاكم، حل مجلسي الشعب والشورى، محاسبة المسؤولين عن قتل شهداء الثورة، محاكمة عاجلة للفاسدين سارقي ثروات الوطن"، رائحة البول تنبعث من ناحية عمر مكرم، لافته مكتوب عليها "منك لله خليتنا نحب بعض" صورة مبارك على هيئة هتلر، سيدة شابة منقبة "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين"، نقاط طبية، "عنيد مستبد انتهازي علشانك أجلت جوازي"، "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وقد غيرنا ما بأنفسنا، الله عليه الباقي"، لا فتة تقول "القاتل واللص والعميل يريد خروجًا مشرفًا"، في اليوم العاشر من الثورة رأيت فلاحًا أربعينيًا بجلابية وعمة على الرأس يحمل لافتة "ارحل يا عدو الفلاح يا عدو القمح يا عدو القطن"، سيد درويش يُغني في السماعات القوية "قوم يا مصري"، استقالة المذيعة هالة فهمي حتى لا تضطر لإذاعة الأكاذيب على التليفزيون، في اليوم العاشر أفراد من الجيش يقبضون على أحد الأفراد بإمساكه من سترته وجره تجاه الدبابة، "يا مبارك يا طيار الطيارة في المطار"، هو ينوي استبدال المصريين، "منك لله خليتنا نحب بعض"... في مليونية الشهيد، قداس وصلاة الغائب في الميدان، الهلال والصليب، موتيفة من ثورة 1919، "ارحل عايز أروح استحمي"، رأيت الدبابات وهى تدخل ميدان التحرير كجرادات حديدية ضخمة فقدت القدرة على الطيران في بيئة ليست بيئتها فراحت تتخبط محطمة الأرصفة والحواجز الحديدية، "يا جيش الشعب انحاز للشعب"، بوابة المترو في محطة التحرير وقد أغلقت بأكوام من الزبالة وذلك كوضع دفاعي بإشعال الزبالة في وجه الأمن إذا ما فكر في مهاجمة المظاهرة من النفق، "هيلا هيلا هيلا والليلة آخر ليلة"، حامل الزير، يمشى في المظاهرة محتضنًا الزير طوبي اللون، زير جديد لم يمس، يطوف به في أنحاء الميدان، وهو يقول ارحل بقى تعبت، يريد أن يرحل حسنى مبارك حتى يكسر الزير وراءه، وينتهي من حمل الزير والمظاهرة في وقت واحد.

الخميس 10 فبراير الساعة 11صباحًا
فنجان القهوة الصباحي في يدي، بينما أطمئن على الميدان من البلكونة، كل شيء في مكانه كالمعتاد، عاد عم حندوقه السايس وولده الشاب إلى الشارع، وضع الجراج حاجزًا حديديًا متحركًا أمام بابه بعرض الشارع لتنظيم حركة دخول وخروج السيارات، عما قليل سأنزل لأشارك في اعتصام بالمجلس الأعلى للثقافة، أحدث الفئات الوافدة إلى الاحتجاجات، بعد تفكير في عوائق السير اخترت أن أذهب إلى المظاهرة سيرًا على القدمين، دخلت إلى ميدان التحرير من بوابة قصر النيل، كانت المظاهرة لا زالت في لحظة استقبال صباح جديد، وكانت الحشود في حالة صباحية، تتزايد الحشود إلى أن تصل للذروة نحو الساعة الرابعة مساء، خرجت من البوابة المجاورة لمبنى وزارة الخارجية القديم، باعة كثيرون خارج البوابة يبيعون أعلامًا بكل الأحجام وبسكويت وشيبسي وسمسمية وفولية، وسجائر و كروت صغيرة ملونة معدة للتعليق على الصدر عليها شعارات مثل مصر فوق الجميع، في مدخل الكوبري سيارات كثيرة تتحرك بصعوبة، حركة السير في اتجاهين. جماهير كثيرة على الكوبري، كان مظهر المشاة إما قادمون للمظاهرة بأعلامهم ولافتاتهم أو خارجون منها، سرت يمين دار الأوبرا رأيت ثلاثة شباب يسيرون وحدهم ويرددون هتاف "يسقط يسقط حسنى مبارك"، الغريب أنهم كانوا يسيرون عكس اتجاه مظاهرة التحرير، كنت أسير بدوري عكس اتجاه السيارات، رأيت بلاعة صرف صحي طافحة يتصاعد منها مياه الصرف المكتوم تحت الغطاء الحديدي، و رائحة حادة في المكان، رجحت أن البلاعة لن تجد أحدا ليصلحها، فالنظام يتهاوى، فقط يسيطر على مقعد الحكم والإذاعة والتليفزيون وبعض الصحف فضلا عن الجيش ذي الموقف الغامض، كان الباب الحديدي للمجلس مغلقًا، رأيت المظاهرة بالداخل أمام مبنى المجلس، حاولت الإشارة والمناداة ليفتح لي أحد الباب دون جدوى، جاء رجل طاعن في السن من خلفي، و سألني هووه فيه إيه؟ قلت له مظاهرة في المجلس والباب مغلق، نصحني أن أسير إلى نهاية السور وانحرف يسارا، وأنني سأجد ممرًا على اليسار أدخل منه إلى المجلس، سرت دون أن أسأله هو ماذا يريد؟ كأنه وُجد في هذه اللحظة بالذات ليرشدني كيف أدخل للمظاهرة، بالفعل دخلت من الممر إلى المظاهرة المصطفة على هيئة قوس، كانت مكونه من نحو خمسين شخصًا تقريبًا، كانت اللافتات والشعارات مطابقة لما هو في الميدان – الشبان الذين تناوبوا قيادة الهتاف في منتصف القوس لم أعرف أيًا منهم – كانوا يشبهون شباب الميدان، فكرت هل جاءوا هنا ليقودوا المثقفين والكتاب، ويساعدونهم على صياغة رفضهم داخل المظاهرة، هؤلاء الشباب يقودون الشعب كاملاً، شيء مذهل، لا أصدق ما يحدث، لماذا كان متاحًا لهؤلاء أن يضطلعوا بهذه المهمة، دون ادعاء دون تنطنه دون تخوين، كيف تجاوزوا كل أمراض النخب السابقة، كيف أيقظوا من غرق في اليأس أو في الحسابات المشؤومة، أو في الطرق المسدودة لتدمير الذات، هذه العبقرية البسيطة كالماء والهواء، "ارحل يعنى امشي ياللى ما بتفهمشي"، رأيت ممن أعرف: سيد البحراوى، منصورة عز الدين، محمد عبد النبي، حمدي الجزار، هشام أصلان، هويدا صالح، سمر نور، محمد صلاح العزب، سيد ضيف الله، هيدرا جرجس، سيد الوكيل، شعبان يوسف، سامية أبو زيد، طه عبد المنعم... " ارحل" سمعت محمد عبد النبي يهتف هتاف التجريس الشهير في ميدان التحرير "حلو يا حلو مبارك شعبو حلو"، " دلعو يا دلعو مبارك شعبو خلعو"، والكتاب والمثقفين يرددون وراءه أمام مبنى المجلس ثم إشارة يد من سيد ضيف الله بأن ننطلق إلى ميدان التحرير لننضم للمظاهرة، وبالفعل انتظمنا في صفوف وسرنا في الشارع باتجاه كوبري قصر النيل، قبل الوصول إلى الكوبري أوقفنا الشاعر أحمد سويلم أمام البوابة الرئيسية للأوبرا انتظارًا لمظاهرة اتحاد الكتاب القادمة من الزمالك، وقفنا نردد الهتافات، كانت كاميرات كثيرة تسجل الحدث، وكان يقف إلى جواري كل من منصورة عز الدين وهشام أصلان، كنت أحمل لافته من كلمة واحدة "ارحل"، التحمت بنا المظاهرة القادمة من الزمالك ودخلنا إلى كوبري قصر النيل على يسار الكوبري، عكس اتجاه السيارات، هبت نسمة شتوية باردة حركت مياه النيل رصاصية اللون، رأيت لأول مرة واجهة مبنى الحزب الحاكم المطلة على النيل محترقة، خالجني الشعور بأن حسنى مبارك سيرحل، وأنه لم يعد هناك مفر من رحيله وإلا فعلى كل من شارك في الثورة أن يرحل، لا يوجد حل آخر، وأعتقد أن هذا ملمح هام من ملامح هذه الثورة، هو أنها أحرقت كل مراكبها وراءها تباعًا حتى لم يتبق لها أي وسيلة للتراجع، من بوابة قصر النيل الأمنية استقبلتنا تشريفة الميدان... "مرحب مرحب بالأحرار يالا انضموا للثوار"، راحت المظاهرة تلتحم بالموج البشرى داخل الميدان وتذوب فيه وبقيت أنا و منصورة وهشام، والعزب، وسمر نور، وهويدا صالح في دائرة وحدنا بعيدة نسبيًا عن الزحام، ثم سقط مطر غزير فرحنا نتجه تحت المطر إلى شرق الميدان تحت شرفة مطعم كنتاكي المغلق منذ بدء المظاهرة حتى يهدأ المطر.

خرجنا من بوابة شارع طلعت حرب للإفطار وتناول القهوة على مقهى زهرة البستان ثم العودة للمظاهرة، دارت المناقشات في المقهى حول تحرك مجموعة من المتظاهرين لأول مرة إلى قصر عابدين، وحول قيادات المظاهرة، وحول تفاهة من تتصل بهم وسائل الإعلام المصرية والعربية كممثلين عن شباب الانتفاضة، وحول تشبث مبارك بالحكم، وتهديد عمر سليمان بالانقلاب العسكري، وحول التوقعات عن مليونية غدا الجمعة، وإنها ستتجاوز جميع الحدود، وأنها ربما كانت الحاسمة في رحيل حسنى مبارك، قلت: "إن هذه الحركة قد حولت أجزاء كبيرة من أدبنا إلى أدب غير قابل للقراءة".

الخميس11 فبراير الساعة 5,00 مساء
الشقـة
بعد أن عدنا أنا ومنصورة ومحمد عبد النبي وسمر من أمام مجلس الشعب، ذهبت منصورة إلى بيتها، وانضمت سمر إلى مظاهرة التحرير، وذهب محمد عبد النبي إلى موعد، ورحت أشق طريقي وسط الطوفان البشرى إلى البيت في حالة شديدة من الإرهاق، اتصل بي صحفي من موقع الأهرام الإلكتروني يسألني حول توقعاتي عن جمعة التحدي وما إذا كانت ستشهد رحيل حسنى مبارك، اندهشت، هل يمكن نشر هذا الكلام في موقع تابع للأهرام؟ اللهم إلا إذا كان الصحفي يُعد موضوعًا للنشر بعد رحيل مبارك لتيقنه من رحيله، قلت إن نظام ثورة يوليو عمره 62 سنه، و إنه أنتج نمطًا من السلطة لا زال هو السائد إلى اليوم، وإن هذه الثورة تمثل قطيعة كاملة مع هذا النمط من السلطة، وإن هذا النظام الذي شاخ وهو يحكم، ولازال في جعبته الكثير من حيل التآمر، وإنه سيواصل تشبثه بالحكم خوفًا من المحاسبة ومن ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية، ومن مصادرة الأرصدة المهربة، وإنني لا أتوقع أن يسقط مبارك يوم الجمعة وربما حدث ذلك خلال أسبوع، كانت هناك توقعات ضخمة عن جمعة التحدي أو جمعة الزحف، وكنت أقلق كثيرًا من رفع سقف التوقعات خوفًا من الإحباط.

خبر عاجل
الساعة 5,20 مساء
خبر عاجل على الجزيرة حول انعقاد المجلس الأعلى للقوات المسلحة، كانت هذه هي المرة الأولى التي يظهر فيها اصطلاح المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ضمن سياق الانتفاضة وفجأة قطع مذيع الجزيرة كلامه وقال ننتقل إلى التليفزيون المصري، ظهر مذيع شاب يرتدى بذلة مدنية ليقرأ البيان رقم واحد، "انطلاقًا من مسؤولية القوات المسلحة والتزاما بحماية الشعب ورعاية مصالحه وأمنه، وحرصًا على سلامة الوطن والمواطنين ومكتسبات شعب مصر العظيم وممتلكاته، وتأكيدًا وتأييدًا لمطالب الشعب المشروعة ... انعقد اليوم الخميس الموافق العاشر من فبراير 2011 المجلس الأعلى للقوات المسلحة لبحث تطورات الموقف حتى تاريخه. وقرر المجلس الاستمرار في الانعقاد بشكل متواصل لبحث ما يمكن اتخاذه من إجراءات وتدابير للحفاظ على الوطن ومكتسبات وطموحات شعب مصر العظيم".

رأيت هذا انقلابًا عسكريًا، سمعت الميدان في حالة هياج شديد ثم ساد للحظة هدوء غير عادي، كنت في حاجة لأحد أكلمه، اتصلت بمنصورة قلت لها إنني أخشى أن يكون هذا هو الانقلاب العسكري الذي بشر به عمر سليمان، فالبيان رقم واحد هو قرين الانقلابات العسكرية في العالم الثالث، وعندنا البيان رقم واحد لثورة يوليو1952 بصوت أنور السادات، أيدت منصورة قلقي ورحنا نبث قلقنا على الفيس بوك، ورأيت كثيرين عندهم نفس القلق، كنت أتابع الجزيرة والفيس بوك في وقت واحد، كان مذيع الجزيرة على اتصال مع ناشط مباشرة من ميدان التحرير، قال الناشط "إن أحد الضباط قال له إن مبارك تنازل للجيش عن السلطة، وإنه وربما يكون قد غادر البلاد"، ساد هياج وموجات فرح كبيرة في الميدان نقلتها الجزيرة، ووصلتني من البلكونة، كان المتظاهرون في الميدان يتابعون أخبار الجزيرة لحظة بلحظة على شاشة منصوبة على عمارة هارديز شرق الميدان، وعلى سماعات قوية في جميع أركان الميدان، وكانوا يصنعون لها الأخبار لحظة بلحظة في بث مباشر متصل، فإذا ما أذاعت خبرا انتظرت ممن في الميدان الرد الجماعي لتنقله مباشرة للعالم ولباقي المتظاهرين في أنحاء مصر.

خبر عاجل آخر على شاشة الجزيرة : رويترز عن الأمين العام للحزب الوطني الحاكم في مصر: الخيار الأفضل لمبارك هو التنحي وأتوقع مغادرته اليوم. كان هذا هو الخبر الصاعق فلا يمكن لأحد رجاله بيعه هكذا علنا ما لم يكن الخبر حقيقيًا، في اتصال آخر مع الناشط وائل غنيم يقول إن رحيل مبارك مطلب باعتباره رمزًا للنظام وإنه ينتظر رد فعل الجيش.

7,25مساء
خبر عاجل على الجزيرة
الرئيس الأمريكي أوباما ردًا على أسئلة الصحفيين: لابد أن ننتظر لنرى ماذا يحدث في مصر

إذن الحسم الليلة، استباقًا لجمعة الزحف إلى جميع المواقع الحيوية في جميع أنحاء مصر والقاهرة، أكيد قدر النظام أنه سيهزم، وقرر التعقل والتراجع في اللحظات الأخيرة، سأنزل إلى الميدان خلال دقائق.

عاجل آخر على الجزيرة الساعة سبعة ونصف: الرئيس مبارك يعقد اجتماعًا الآن مع رئيس الوزراء – أكيد يودعه ويسلمه المفاتيح – وأنباء عن خطاب لمبارك الليلة، لابد أنه خطاب التنحي، أجهدت نفسي في تصور أي لغة سينطق بها هذه العبارات، وكيف ستكون ملامحه وهو يعلن ذلك هل ستطاوعه ملامحه التي اعتادت الخداع طوال ثلاثين عامًا أن تواجه لحظة الحقيقة، ستكون ليلة أسطورية، ليلة انتصار الثورة، ولكن ما حقيقة موقف الجيش؟

7,45مساء
ميدان التحرير
كان الميدان في كامل أبهته، رواد ساعة الذروة لم ينصرفوا كالمعتاد مع قدوم المساء، تزايدت المنصات ومكبرات الصوت، نشأت منصة جديدة على ناصية شارع قصر النيل أمام "ايجيتراف" للسياحة، الأعلام منتشرة في كل مكان، وتلوح بها أيدي الجميع، أغاني فرحة "صورة صورة كلنا كده عايزين صورة"، وشادية تشدو "أصله ما عداش على مصر"، والناس يتمايلون على الإيقاع، يرقصون ويغنون، شاب يرسم العلم المصري على الوجوه، تنبيهات بضرورة عدم الانصراف من التحرير قبل تحقيق كامل أهداف الثورة، رحت أشق طريقي وسط التكتلات البشرية إلى شرق الميدان نحو الشاشة الضخمة المنصوبة على عمارة هاردييز، بدا الوصول دربًا من المستحيل، كان الوقت يمر بتثاقل، وأنا لم أنل كفايتي من الراحة، كانت الحوائط البشرية تشكل حواجز لضبط حركة الذهاب والإياب داخل الحشود المتلاصقة، شعرت بالاختناق أكثر من مرة، رحت اشرئب برأسي بحثًا عن بقعة هواء نقية، أفضى زحفي بين الحوائط البشرية إلى موطئ قدم في زاوية صعبة جدًا أمام الشاشة الكبيرة، بحيث إذا تحركت رأس حركة بسيطة حجبت عنى الشاشة بالكامل، ارتضيت بمكاني ورحت انتظر، أستمع للأغاني وانتظر، مدير المنصة يذيع عن أطفال تائهين من يجدهم يحضرهم عند الإذاعة، أو يقول بلاغات من نوع نهى إبراهبم، مايسه السعيد تنتظرك عند بوابة طلعت حرب، لم أكن أعرف موعد الخطاب، كانوا يرجحون انه سيكون في العاشرة، لا زال الوقت مبكرًا، ساعة تقريبًا، كيف سأقضى الساعة في هذه البؤرة، نظرت حولي للكتلة البشرية التي أقف في مركزها، من الجنون التفكير في مغادرتها، لا منفذ، وإذا استطعت الوصول إلى أحد الممرات المضمونة بالحوائط البشرية، ربما أذيع الخطاب قبل خروجي منها، وقفت أبدل ثقل جسدي من ساق إلى ساق، والإذاعة لا تكف عن تشغيل الأغاني، وإذاعة التنبيهات عن التائهين أومن ينتظرون بعضهم، وتطور الأمر قليلا بأن قال مدير المنصة "مطلوب نجار حالا إلى جوار الإذاعة"، سرعان ما قذفت الكتلة البشرية إليه بنجار كأنهم كانوا في انتظار الطلب، أما أنا فقد كنت حانقًا على مبارك رئيسًا ومتنحيًا، فهو متعب في الحالتين، ومن ثم اتخذت قراري بالخروج من الكتلة البشرية، لا أريد أن أرى وجهه، سأكتفي بالاستماع إليه من أي سماعة من السماعات الكثيرة المنتشرة في الميدان، شققت طريقًا للوصول إلى ممر للخروج، كان يبدو أن الميدان قد تحول كله إلى كتلة بشرية واحدة لا منفذ بها، وكان هناك المخادعون الذين يخرجون من اتجاه الخروج إلى اتجاه الدخول بالنفاذ من تحت أيدي الحائط البشرى فيربكون الحركة ويعطلونها، رحت أتقدم ببطء ملتصقًا فيمن هو أمامي وممسكًا بكتفيه، ومن هو خلفي يفعل مثلي، بطلوع الروح خرجت إلى بقعة أقل ازدحامًا، تنفست هواء رطبًا ثم رحت أعدل من وضع ملابسي، واتجهت إلى سماعات معلقة بالقرب من كنتاكى، ووقفت على حافة الحشد، سمعت تنبيها شديدا بالإنصات، كان خطاب التنحي قد بدأ، كانت الساعة حوالي العاشرة والنصف، كان صوته المعهود، مصابًا بالوهن قليلا، مع الاحتفاظ بالرطانة الرسمية بوقفاتها ونقلاتها المعتادة، لم أفهم في البداية ماذا يقول إلى أن سمعته يستخدم عبارات من نوع سأعمل وسأكون، وخلال الأشهر المتبقية من ولايتي، رأيت الذهول على وجوه من يحيطونني وهم ينظرون في الظلمة الخفيفة تجاه مصدر الصوت، اندلعت موجة هياج أسكته الجميع بسرعة للاستماع لباقي الخطاب، فوجئت بمن حولي يرفعون أحذيتهم عاليا كأنما سينقضون بها على من يتكلم داخل السماعات السوداء الضخمة، سادت موجة حزن وغضب واختناق، كان الرجل يتكلم باعتباره باق في السلطة، وأنه أصدر تكليفات لمجلسي الشعب والشورى، وأنه سيعمل في المدة المتبقية من ولايته على نقلٍ سلس للسلطة، لقد كان يهزأ بالجميع، قلت لمن يقف إلى جواري بمرارة، هذا الرجل لن يخرج بإرادته أبدا، شعرت بساقي غير قادرتين على حملي، وأنني على وشك أن أتهاوى على الأرض، سادت لحظة حيرة كنت أرى الوجوه وقد غمرها الحزن والإحباط، مشاعر متضاربة كانت تجتاح الكل ما بين الحزن والحنق والإحباط، اندلعت موجة غضب عارم شملت الموج البشرى داخل الميدان ثم سمعت هتافًا بدا أنه الحل الوحيد الممكن "بكره العصر هنكون في القصر"، اندفعت كتلة بشرية كبيرة للخروج من الميدان من مخرج عبد المنعم رياض، وهى تردد "دلوقتى... دلوقتي"... رغم ذلك كنت أرى الحيرة على الوجوه، لا يمكن ترك الميدان، والذهاب إلى قصر العروبة، للحظة انقسم الميدان إلى كتل عديدة لمناقشة الأمر، والانتهاء إلى رأي، صرخت "إذا خرجنا من التحرير إلى أي مكان مش هنقدر نرجعه تاني"، وقال آخر "يستفزنا عشان نخرج من الميدان، ويحتلوه"، وصرخ رجل أربعيني بدين، "الميدان تحت جنازير الدبابات، مش هنسيب الميدان"، بالرغم من ذلك كانت الكتلة البشرية الذاهبة للقصر في طريقها إلى بوابة الخروج، انطلق رجل بمايكروفون خلفهم وراح يخطب فيهم" الميدان الميدان مش هنسيب الميدان" دون جدوى، فقد ركبهم الغضب وقرروا الوصول بالمواجهة إلى نهايتها، بدا لي أن الميدان يتمزق وشممت رائحة النهايات، أكاد أتهاوى، رحت أجر رجلي تجاه مخرج قصر النيل جارًا خيبة وإحباطًا كبيرين، وأفكر أن الدكتاتور المعتوه لا يعنيه أحدا سوى نفسه، وأنه لا يهتم إذا ما ضرب الحرس الجمهوري التابع له الناس، لم أصد ق كلامه الزائف عن الشهداء، فوجئت بيد مجدي على كتفي وهو يهزني "ما يهمكش يا أحمد الناس دي تستحق تشوف حلمها"، راحت دمعة تشق طريقها رغمًا عنى، حارقة ملتاعة، ثم انقلبت إلى مدخل العمارة وارتميت على جدار الأسانسير وأنا اشعر بدوار ورغبة في القيء.

الجمعة 12,30
بعد منتصف الليل
حين عدت إلى البيت كان التليفزيون كما تركته مفتوحًا على قناة الجزيرة "قمر هوت بيرد"، وهو التردد الذي لم يفلح النظام في التشويش عليه، أطفأت الأنوار وارتميت بملابسي على كنبة "الليفنج" بينما يتناهى إلىّ من الجزيرة صوت البث المباشر من الميدان، استغرقتني غفوة، أفقت على صوت جرس الباب يرن بإلحاح، أنا عادة لا أنتظر أحدًا، خاصة في هذا الوقت من الليل، كان فتح الباب مغامرة خطرة في مثل هذه الأيام، يمكن أن أفتح الباب، وأفاجأ بسلاح أبيض في جانبي، أو أفاجأ باعتقال من نوع ما، مباحث أمن دولة، شرطه سرية، بلطجية، شرطة عسكرية، ولن يهتدي أحد إلى مكاني، ولن يشعر أحد باختفائي إلا بعد مدة طويلة، فأنا أقيم وحدي، ولا يوجد من يتتبع خط سيرى، وقفت حائرًا أمام إلحاح الجرس، لا زال الصداع يقبض على مؤخرة رأسي، دفعني الفضول وصمت الجرس أخيرًا للنظر من المشربية الدائرية الصغيرة في الباب معتمدا على أن الباب مغلق بمزلاج حديدي قوى سيستغرق فسخه الوقت الكافي لطلب نجدة من الشارع، كان رجل متوسط الطول يبرز كرشه من سويتر قاتم اللون ويلف كوفية حول رقبته يقف مترددا أمام السلم، رحت أميز بصعوبة وجهه، كدت أغلق المشربية وأعود حين رأيته ينظر في الساعة بإرجاع رأسه إلى الوراء وإبعاد يده بشده مقاوما قصر النظر، كانت هذه الحركة المصحوبة بمط الشفة السفلى لصديقي القديم عادل الجندي، رحت أفتح الباب سريعًا، "أهلا يا راجل"، كانت مفاجأة حقيقية، كيف عرفت مكاني، بدا عليه الارتياح والعتب بسبب بقائه طويلا أمام الباب بينما صوت الجزيرة يتناهى إليه، قلت "معلش كنت نايم، أنا بنام والتليفزيون مفتوح"، قال: "أنت أعطيتني العنوان من شهور، أنا جيت من دمياط مع اثنين أصدقاء من المحامين لزيارة ميدان التحرير، وبحثت عنك ولم أجدك قلت أعملك مفاجأة"، كنت مندهشًا فالجنيدي لا يحب كثرة التنقل ولا يحب القاهرة بزحامها وغبارها قلت: "آخر شيء كنت أتوقعه"، وتذكرت كيف حلمنا في مراهقتنا بالبحث عن حزب شيوعي سري ننتمي إليه لنقوم باغتيال السادات، لكن مساعينا فشلت فشلاً ذريعًا، واغتال السادات بشر آخرون، "بجد إيه الدافع القوى اللي دفعك تغادر الحصن في دمياط وتيجي القاهرة؟" قال: "كنت عايز أشوف وجوه العيال بتوع التحرير عن قرب، وبيختلفوا عننا في إيه"، قلت: "وإيه الإخبار؟" قال: "شفت الشباب اللي في الميدان، دي عيال هفتانه جدا زي ما يكون ما أكلوش من شهرين، لكن فعلاً اللي عملوه مذهل وغير متوقع"، سألته "إيه أخبارهم دلوقت؟" قال: "إحباط من الخطاب وغضب"... كان الصداع يتقدم بثبات إلى مقدمة رأسي، ارتميت مجددًا على الكنبة قلت له: "عادل البيت بيتك، ادخل اعمل لنفسك حاجة، قضيت يومًا صعبًا في الميدان"، قال: "لا أنا نازل، الجماعة بيستنوني تحت"، قلت له "بات هنا الليلة"، قال: "مش ممكن أسيب الناس، هنرجع الليلة دمياط"، سألته "أخبار دمياط إيه؟" قال: "مظاهرات يومية، ومتوقع مظاهرة كبيرة غدًا، البلطجية ومؤيدي مبارك يزعمون أن الجيش يحمي مبارك ومش هيمشي ومش هيسيب الحكم"، قلت: "آه"، كان الصداع يزيد رغبتي في القيء ويشعرني أن عيني اليسرى ثقيلة، وكأنها مركز الصداع، حتى أن الدموع كانت تتجمع بها وتسيل رغمًا عنى، قال فجأة "عارف العيال دول نجحوا ليه؟" قلت "ليه؟" قال "الجيل دا حل مشاكله مع الجنس وارتاح، دخلوه من أقصر الأبواب، ومن غير لف ولا دوران، أما إحنا، التربية والنظام (حلّونا) بدري، ياراجل أنا اقتربت من الخمسين، وعمري ما عملت واحد يكيّفني"، انفجرت بالضحك، شعرت بمكونات رأسي ترتج، لكنى أيدته "أيوه ما فيش عندهم مشكلة مع الجنس ولا أوهام بخصوص الأمور الحياتية الصميمة"، استأذن ليلحق بأصحابه، قلت: "كان نفسي أنزل معاك لكنى متعب جدا"، أغلقت الباب، عدت هذه المرة إلى السرير، والسؤال يتردد في رأسي لماذا لم نكن نحن مثلهم؟ وهل أمامنا فرصة لنعيش مثلما عاشوا.

الجمعة11 فبراير
الساعة 12,10 ظهرًا
جمعة التحدي، أو جمعة الزحف إلى مؤسسات الدولة، القصر الرئاسي، البرلمان، الإذاعة والتليفزيون، وزارة الداخلية، بعد خطاب مبارك المهزلة، على البعد، من البلكونة أرى الحشود وقد فاضت عن ميدان التحرير وامتدت حتى ميدان طلعت حرب، سمعت بيان القوات المسلحة، يتبنى إجراءات حسنى مبارك التي تعهد بها في خطابه بالأمس، ويضمن تنفيذها، راقبت الموقف على شاشة التليفزيون وبالنظر من البلكونة، نزل سهم الله على المتظاهرين بعد بيان القوات المسلحة رقم 2، فالجيش يتعهد بضمان تنفيذ إجراءات لا تمثل مطالب الميدان، أسمع من البلكونة خطبة صلاة الجمعة، هل سيقول المتظاهرون كلمتهم بعد صلاة الجمعة؟ جو ربيعي مشمس رغم برودة فبراير، ما هو موقف الميدان الآن؟ نظام نشأ منذ 62 عامًا يقف الآن عاجزًا ومتلاعبًا بالناس، لا أصدق ما قاله حسنى مبارك بالأمس، هل هو مريض؟ تحدث أيضًا عن الإملاءات الأجنبية التي لا يقبلها؟ وهو العائش فيها، بالأحرى لم يدعهم يحتاجون إليها أبدا، سوى هذه المرة، بعد أن أصبحت مشاكله أكبر من فوائده، أخيرًا لم يسارع إلى تنفيذ ما يريدونه قبل طلبه منه؟ كيف يرى الدكتاتور الثلاثين عاما الفائتة الآن؟ كيف يرى أصدقاء الماضي، ماذا يريد أن يقول لهم ولنا الآن لو أنه قرر أن يتكلم أخيرًا بصدق دون خطاب معد سلفًا بمعرفة موظف كان تلميذًا في الإعدادية حين ارتقى هوى سدة الحكم؟ إلى أين يذهب بنا في لعبته الأخيرة؟ دعوات صلاة الجمعة تواتيني في بث مباشر من الجزيرة، ما الذي سيحدث ماذا سيعمل هؤلاء الناس الذين أخرجوا كل ما في قلوبهم من أمل؟ وماذا سيفعل الجيش الذي يقف على الحيادً في أفضل الأحوال، أو مساندًا لنظام مبارك إلى النهاية في أسوأ السيناريوهات، وهل الجيش حائر حول كيفية انتقال السلطة دون أن يفقد محوريته التي أضفتها عليه حركة يوليو؟ سأنزل إلى الميدان لأرى الوضع بعد أن تعقد الموقف، الساعة الواحدة إلا عشر دقائق، شاهد عيان للجزيرة يقرر: حالة تأهب قصوى في محيط القصر الرئاسي بمصر الجديدة، وتعزيزات من الجيش على طول طريق صلاح سالم، ونشر قناصة الحرس الجمهوري فوق العمارات القريبة وفوق قصر العروبة، ويؤكد أنه إذا ما حدث أي تهديد للرئيس لن ينجو أي أحد من المتواجدين في محيط القصر الرئاسي بمن فيهم مؤيدي مبارك، الدكتاتور في قصر العروبة الآن، بماذا يشعر في هذه اللحظة؟ بينما يصوب الحرس الجمهوري رشاشاتهم إلى رؤوس وصدور آلاف المتظاهرين حول القصر المحاط بالأسلاك الشائكة؟ ماذا سيحدث؟ كنت على يقين أن الحرس الجمهوري سيضرب في النهاية، فهو سلاح منفصل عن الجيش ويتبع مبارك مباشرة، وأكيد كان حريصًا على إرضائه لضمان الولاء المطلق، خاصة بعد اتجاهه لتوريث ابنه الحكم رغم الرفض الشعبي، الحرس الجمهوري الآن هو خط دفاعه الأخير بعد انهيار الداخلية والأمن المركزي، وإعلان الجيش أن لن يطلق طلقة واحدة ضد المتظاهرين. يقود الديكتاتور الوضع إلى هذه الدرجة الخطيرة حفاظًا على ذاته، لأنه يعلم أنه سيخضع للمحاكمة إن لم يكن بيد مَن في الميدان وحول القصر فبيد أصدقائه القدامى أصحاب الإملاءات الأجنبية، يعلم الدكتاتور أنهم سيبيعونه إذا ما كان ذلك مفيدًا لهم بأي درجة، خاصة بعد أن انكشف الغطاء عن أهوال من القتل والإرهاب والسلب والتزوير، وبعد أن أفاق الناس على أن من يحكمون هم عصابة اختطفت جهاز الدولة واستخدمته في تحقيق مشاريعها الخاصة، لا زال الدكتاتور يلعب لعبته الأخيرة.

من البلكونة أرى الميدان ممتلئًا عن آخره، رغم أن الصلاة لم تنته في الكثير من مساجد القاهرة، يوجد ظن على نطاق واسع أن الجيش في النهاية سيقف صراحة مع مطالب الشعب، وأنا من جبهة المتشككين لسوء الظن المستحكم ما بين المدنيين والعسكريين، سأنزل إلى الميدان، خبر عاجل على الجزيرة: بلطجية يعتدون على المتظاهرين في محيط القصر الرئاسي، وفى الإسكندرية يتوجه المتظاهرون إلى القصر الرئاسي في رأس التين.

لحظة قلقة وتاريخية، دراما كونية، إرادة كسرت حاجز الخوف، ماذا يحدث الآن؟

11 فبراير الساعة 1,40 بعد الظهر
«سأنزل فورا إلى الميدان»

11 فبراير 5,10 مساء
خرجت من الميدان الساعة 4,30 وسط دعوات حول الاستعداد للبقاء في الميدان ستة أشهر، ذهبت إلى سوبر ماركت "مصرية" في شارع صبري أبو علم لشراء احتياجات البيت، ميدان طلعت حرب ممتلئ بالمتظاهرين، أغاني وطنية تنبعث من مكبر صوت في الميدان، مناقشات حول محاولات النظام البقاء في الحكم بأي ثمن، مجموعة من المتظاهرين تلتف حول خطيب إلى جوار تمثال طلعت حرب، ينبه الخطيب إلى أنه لو تمت الاستجابة لما جاء بخطاب حسنى مبارك التي تعهد الجيش بضمان تنفيذها فإن كل المشاريع المشؤومة للنظام ستُنفذ بما فيها مشروع توريث مبارك الحكم لابنه، رغم تمثيلية تفويض عمر سليمان، وسيقولون وقتها إنه جاء بانتخابات ديمقراطية، ونبّه إلى أن خطايا النظام وجرائمه سيتم تحميلها لموظفين وضباط صغار كالعادة، ولن يُحاكم أحد من الكبار، وأن النظام يبحث عن وسيلة للنفاذ من ورطته... حوارات جانبية في الميدان حول أن نَفَسنا أطول منه.

كانت أرفف كثيرة في الماركت شبه خالية، لم أجد أي خضروات طازجة، سلع كثيرة ناقصة بسبب الإضرابات والاعتصامات التي بدأت تتكاثر في جميع المحافظات، ربة منزل تقول للكاشير "لو كان عايز يثبت براءته من الجرائم اللي حصلت كان يقدم استقالته"، رجعت البيت. قابلت منصورة في الميدان، جلسنا على رصيف أمام مجمع التحرير، كانت محبطه من خطاب مبارك بالأمس، بدا أن المشوار لازال طويلاً، أخيرًا رأينا ديكتاتورا مصريًا على طريقة أمريكا اللاتينية، في خريف البطريرك، والسيد الرئيس عند استورياس، غير أن الدكتاتور المصري لم يطبخ وزير الخارجية، فعل ما هو أكثر واقعية وسحرية، أمر الحوت بأن يبتلع جيشًا قوامه اثنان مليون جندي ما بين أمن مركزي، وبوليس بأنواعه بمن فيهم وزير الداخلية، وأمر بنشر جميع مجرمي السجون بدلا منهم، وبالتالي كان مسؤولاً ولأول مرة في تاريخ مصر عن اختفاء صنف البوليس والعسس وخلو السجون من أي مساجين فيما عدا السجن الحربي، رأيت لا فته تظهر لأول مرة في الميدان "مطلوب عمليه جراحية لفصل حسنى مبارك عن الكرسي"، إصرار قوي، فَطِن الناس إلى محاولة الإيقاع ما بين الجيش والشعب، على الجزيرة الآن خبر عاجل: التليفزيون المصري بيان هام وعاجل من رئاسة الجمهورية بعد قليل...

دعوات في ميدان التحرير إلى الاستمرار، رأيت وجوه الناس، تبدي تصميمًا على الاستمرار إلى حين تحقيق الأهداف، وفطنه إلى العصابة التي اختطفت البلد لمدة ثلاثين عامًا، لافتات حول رئيس العصابة وعصابته... عاجل على الجزيرة: نصف مليون في أسيوط يطلبون برحيل مبارك.

أشعر بالقلق، إلى أين سنتجه؟ حاصر المتظاهرون الإذاعة والتليفزيون بالأمس، واليوم قصر العروبة، حوالي ثلاثين ألف متظاهر مرشحون للزيادة بالإضافة لمحاصرة مجلس الشعب ورئاسة مجلس الوزراء، في ميدان التحرير، أعداد مليونية فاضت على جوانب الميدان، كأن القاهرة الخديوية قد تحولت كلها إلى امتداد لميدان التحرير، رأيت مظاهرة أعضاء هيئة تدريس جامعة القاهرة قادمة من ناحية عمر مكرم، دخلت في مناقشة مع مجموعة نساء متوسطات العمر بعضهن محجبات، قلت إن الناس مع الثورة تميل حيث تميل، وإن النائب العام السويسري وافق على التحقيق في طلب تجميد الأرصدة، وإن موقفه سيسير صعودًا وهبوطًا مع موقفنا في الميدان، يعنى مصير حسنى مبارك في أيدنا، جلست منصورة على رصيف أمام المجمع أبدت اندهاشها وهى تقول "قابلت خالي وابن خالي هنا"، ثم أضافت مندهشة: "وسط الملايين دي كلها"، قلت: "إيه رأيك في الثورة اللي بتوصل لأهالينا أسرع من وصول كتبنا إليهم؟"

قضيت نحو ساعتين ونصف من 2: 4,30 جلست على الرصيف في مدخل شارع البستان، شربت شايًا رديئًا تحدثت مع شخصين يجلسان إلى جواري على الرصيف، كانا حانقين على الرجل الذي لا يريد أن يغادر الكرسي، لاحظت شابًا يتفاوض مع امرأة تبيع السجائر على مقربة، اعترض أن السعر مبالغ فيه جدًا قلت ملطفًا "الأسعار هنا سياحي"، قالت المرأة إنها تشتري السجائر غالية أصلاً، كان هناك اتفاق على الاستمرار، وأن مبارك لازق في الكرسي لأنه خايف من المحاسبة، رأيت آباء يحملون أطفالهم على أكتافهم والأطفال يرفعون الأعلام، قال الجالس إلى يساري: "قرفنا بالضربة الجوية يا ريته كان ضربنا، وراح حكم إسرائيل 30 سنة"، كان هذا الكلام مضمون لافته انتشرت في الميدان منذ الأيام الأولى... تحرك جماعي لقطاع من المتظاهرين باتجاه القصر.

أتابع الجزيرة، وأنا ممدد على الكنبة لا أعرف ولا أحد يعرف إلى أين ستتجه هذه الدراما، حتى مدير المخابرات المركزية الأمريكية فوجئ بالأمس أن مبارك لم يتنح، لا أذكر متى سمعت اليوم عن هبوط طائرتي هليكوبتر داخل قصر العروبة، كان هناك شعور بوجود تحركات غير عادية، داخل أروقة الحكم، البيان رقم (2) للجيش أفقد البيان رقم (1) دلالاته الانقلابية، خبر عاجل على الجزيرة: متحدث باسم الجيش يصل إلى ماسبيرو.

ما الذي بقى ليقال؟ على شريط الأخبار أسفل الشاشة حصار مديرية الأمن ومباحث امن الدولة بدمياط، سمعت اليوم هتافا أسمعه لأول مرة "يا حاكمنا بأمن الدولة فين الأمن وفين الدولة" وعلى شريط الأخبار... اليوم جنازة عسكرية مهيبة للفريق سعد الدين الشاذلي، فجأة، حوالي الساعة السادسة مساءً، قطعت قناة الجزيرة بثها المعتاد ونقلت إرسال التليفزيون الحكومي المصري، توقعت أن أرى عسكريًا فإذا بوجه عمر سليمان متجهمًا، توقعت أن يعلن أنه تسلم مقاليد الحكم في البلاد وأن الرئيس غادر إلى ألمانيا للعلاج، كان يقف وراء عمر سليمان رجل متجهم هو الآخر، وبلهجة تراجيدية تكملها أسارير رئيس المخابرات السابق، كما لو كان يريد أن يقول لنا أن من يقف خلفي يضع في ظهري مسدسا لأقول هذا البيان، قال: قرر الرئيس حسنى مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية وكلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة لإدارة شؤون البلاد والله المستعان.

أعتقد أنني لم أسمع البيان كاملا، أو أن البيان تجمد عند كلمة "تخلّيه"، لأنني ربما طرت، أو قفزت، أو سرت، وربما تجمدت، لأنني في زمن لا أقدره، أظنه غير قابل للتقدير، كنت أقف في البلكونة، أصرخ بأعلى صوت كنت أتصور أنى أملكه موجهًا صراخي للمهرولين باتجاه ميدان التحرير ورافعًا ذراعي بقوة منتشيًا بالنصر: ت..ن..ح..ى..ى..ى

القاهرة في 22 فبراير 2011