Wednesday, October 29, 2008

الحكمة الضائـعـة

الحكمة الضائـعـة
(الإبداع والاضطراب النفسي والمجتمع)
د.عبد الستار إبراهيم
العدد (280) من سلسلة عالم المعرفـة ـ ابريل 2002.

. . . على الرغم من الطول النسبي الذي يبدو عليه الكتاب إلا أنه ممتع، وهامٌ للغاية ..

يتناول بوضوح قضية ” الإبداع والاضطراب النفسي والمجتمع”، ويحاول أن يضع فيه د.عبد الستار إبراهيم حدًا للمقولة الشائعة علميًا واجتماعيًا من ارتباط العبقرية والإبداع بالجنون أو الاضطراب النفسي، ويؤكد خطأ ذلك علميًا ومنهجيًا من خلال الطرفين المتناقضين “المرض النفسي”، و” السير الذاتية للمبدعين” .

يركز النصف الأول من الكتاب على بيان”الاضطراب النفسي”، والمرض النفسي، والفرق بينه وبين ما قد يمر على المبدعين والكتاب من حالات قد تكون “لغير الخبراء” قريبة الشبه بما قد يبدو عليه المرضى النفسيين، لا سيما: الاكتئاب، والعزلة، والتقلب الانفعالي، وغيرها من أعراض ، ولكنه يؤكد أن تلك الأعراض، وإن تواترت على عدد من المبدعين والعباقرة فإنه لا شأن للإبداع بها، بل إن بعض المبدعين الذين تعرضوا لأمراض نفسية بالفعل، لم يكن ذلك ـ أبدًا ـ راجعًا لإبداعهم، بل كان بسبب عوامل وراثية أخرى تم التغاضي عنها، بل يذهب لأبعد من ذلك حينما يقرر أن” الإبداع” وحده هو الذي ساعد على تحسن حالات الكثير من المبدعين الذين كانوا عرضة للانتحار، أو الإصابة بالاكتئاب الحاد ,,, إلخ !
في الفصول من الأول إلى السادس يتناول الحديث عن الاضطراب النفسي، وعلاقته بالمبدعين والعباقرة، وإلى أي مدى يمكن اعتبار ما مر به هؤلاء المبدعون اضطرابًا نفسيًا بالمعنى العلمي، ونسبة المبدعين الذين أصيبوا بأمراض نفسية فعلاً، مقارنًة بنسبتها بين الأصحاء العاديين ، ويصل إلى نتائج تؤكـد ما يرمي إليه، يمكن استخلاصها فيما يلي:

* باستعراض موجز ودال لعدد من الاضطرابات لدى المبدعين (في الكتابة أو العلم أو السياسة) تبين أن تلك الاضطرابات على تنوعها لا يمكن أن تقاس بالاضطرابات الموجودة في المصحات النفسية للمرضى العقليين، بمعنى انه إذا وجد لدى كاتب أو أديب ما اكتئاب حاد، فإنه لا يقارن بمرض الاكتئاب كمر ض نفسي، وبما ينتج عنه أي اضطراب نفسي للشخصية التي كانت سوية قبل إصابتها بالمرض .
* في عرضه لمفهوم المرض النفسي والعقلي يبدو لنا جليًا أن هناك فرق بين ما نجده لدى المبدعين والعباقرة، وبين المرض النفسي بمعناه العلمي، وأن ما لديهم لا يعدو أن يكون “ضغطًا نفسيًا” ينتج عنه عدد من الأعراض التي يمكن أن تخيلها مرضًا نفسيًا .
* من هذا المنطلق يلجأ د. عبد الستار إلى ما يسمى في علم النفس بـ”القياس النفسي للإبداع”، والذي استطاع من خلاله (وبفضل علم النفس الحديث) أن يوضح القدرات الإبداعية التي يتميز بها المبدعين من غيرهم، مثل( الإحساس بوجود مشكلة ” الحساسية للمشكلة”، ومعها القدرة العالية على اكتشاف العديد من الحلول الملائمة للمشكلة، والقدرة على وضع تصورات جديدة، ومتابعة الجهد العقلي رغم وجود مشتتات (القدرة على التركيز) ، والدافعية القوية والطاقة العالية على المثابرة في العمل الجاد.
كل هذه المقاييس، وبعرضها على المبدعين، وملاحظة مدى توافقها معهم، تؤكد أنه لايمكن لمن يتمتع بهذه الـ”قدرات” أن يكون مصابًا بمرض أو خلل نفسي ما !
* من جهة أخرى لجأ د.عبد الستار إلى دراسة ميدانية على المبدعين بينت أن ما يشيع عنهم من غرابة في الزي والسلوك لا يشيع إلا في المستويات المتوسطة من الإبداع، وكأن الانشغال بذلك يكون مبعثه الرغبة في التميز أو الظهور بمظهر المبدع دون أن تكون الشخصية مؤهلة فعلاً للإبداع، وقد ظهر من خلال الأبحاث أن المبدعين يتميزون بالثقة بالنفس، والاستقلال في الحكم، والتفكير، وأميل إلى الانطلاق في التفكير والتعبير عن مشاعرهم، وأكثر تفتحًا للخبرة ، وأكثر قدرة على العمل والإنتاج، وتنظيم الوقت والطاقة، فضلاً عما يتمتعون به من قدرة عالية على تحمل الضغوط .
وهكـذا فإذا كان المبدعين والعباقرة قد وجد فيهم من أصيب بالقلق والاكتئاب والأمراض الجسمية والنفسية كبيرها وصغيرها، ولكنهم استطاعوا أن يستمروا في عملية الخلق والإنتاج العلمي والأدبي على الرغم من اضطرابهم، وليس بسببه، بل قد تبين أن الإبداع وعمليات الخلق والإنتاج التي تتم في حياة المبدعين تتم في الفترات التي تخلو حياتهم فيها نسبيًا من الاضطراب ، أو فترة الاستقرار النسبي بعد الاضطراب …
ويقدم الكتاب أمثلة عديدة ودالة في الحقيقة على صحة ما يذهب إليه، سواء من العباقرة الأدباء، أو كبار السياسيين ممن عرف عنهم إصاباتهم بحالات من الاكتئاب أو الرغبة في الانتحار ، وغيرها

في القسم الثاني من الكتاب لا يتوقف د. عبد الستار عند هذه المسألة وبيانها، بل يتعداها ببراعة لوصف الحالة ومحاولة علاجها علميًا …
يذهب الكاتب إلى أن ما يمر بالمبدع ماهو إلا أحداث الحياة العادية، يتوقف عندها المبدع أو الكاتب بشكل من الخصوصية والحساسية، وهي في أغلبها أحداث تقع للمبدعين وغيرهم على السواء، وليس الإبداع سببًا رئيسيًا فيها على أي حال .

ومن الفصل السابع إلى الثاني عشر يركز على تحديد الضغوط النفسية التي يمكن أن يكون المبدعين عرضة لها، بطبيعة عملهم، ودورهم في الحياة، وعلاقتهم بالمجتمع، فيبدأ بالحديث عن ضغوط العمل الإبداعي ، والمشقات المادية، ويرى فيما بعد أنه على المبدع أن يعي تمامًا تلك الضغوط ويتكيف على حدوثها، ويتمكن من مواجهتها بيسر، ذلك أن العمل الإبداعي بطبعه يتطلب منه قدرًا من التركيز، وربما قدرًا أكبر من الاستغراق في العمل، الذي قد يجعله يغفل عن ضرورات حياته الأخرى، فيدفع الناس ـ بالتالي ـ لوصفه بالشذوذ، أو الاضطراب النفسي، من جهة أخرى يؤكد الكاتب على مشكلة افتقاد المبدع للأمان المادي/ الاقتصادي، وصعوبة ظروف الحياة بالنسبة له، وهو أمر معروف وشائع لدى المبدعين( كما هو عند غيرهم)، وما يسببه ذلك الأمر من قلق نفسي على المبدع، كذلك يتعرض المبدع لعلاقات اجتماعية عديدة، تدفعه إلى الأمام، كما قد تكون عقبة في طريقه !
يؤكد الكاتب في هذا الفصل أن الرفض الاجتماعي أمرٌ حادث للكثير من المبدعين والعباقرة، وتختلف درجات الرفض وطريقته من أمة لأخرى،ومن مجتمعٍ لآخـر، فكما أن للمجتمعات غير المتحضرة طريقتها في نبذ المبدعين، فإنه حتى للمجتمعات الغربية التي تتشدق بالديمقراطية، وتقبل الأخر، لها أساليبها المستترة في رفض المبدع، وذلك بعدم التحمس لإنتاجه وتجاهله تمامًا، أو إبعاده عن العديد من وسائل الإعلام، وهكذا ..
كل هذه الضغوط، وما تفرضه من حالة نفسية سيئة، تساعد على تفاقم النتائج السلبية في حياة المفكر والمبدع، ولهذا فليس من النادر أن تجد من المبدعين من يتعرض للإجهاد والأرق، والاضطراب النفسي، والاكتئاب ,,,, ومنهم من يلجأ إلى التدخين، وإدمان المخدرات أو قد يجنح به الأمر إلى التخلي تمامًا عن الإبداع ، بالرغم من كل ما قد يحمله له هذا الطريق من متعة شخصية وإشباع نفسي وتحقيق لذاته !!

ولا يقتصر الأمر على ضغوط الإبداع، وضغوط المجتمع، بل إن للشخصية كذلك دورها الذي لا ينكر في ممارسة نوع من الضغط على نفسية المبدع، وقد ركز الكاتب على 3 أساليب شخصية تتواتر عند المبدعين عرفوا بالاضطراب العقلي والنفسي، وهي” الإدمان”و “العزلة” و”الأساليب الشخصية في مواجهة الانفعالات” .
وهنا يؤكد الكاتب على أن أمرًا كالإدمان لم يرتبط بهمنجواي ـ كمثال ـ لأنه مبدع!، أو أنه كتب روائعه تحت تأثير الإدمان، وإنما كان إدمانه نتيجة ظروف اجتماعية وأسرية خاصة لا علاقة لإبداعه بها، إذ كان هيمنجواي مدمنًا منذ فترة مبكرة من عمره للعديد من الخمور، بل إن ذلك الإدمان هو الذي أوصله لحالات من الاكتئاب الشديدة، وهو الذي سبب له عددًا من الحوادث في حياته، انتهت بأن أقدم على الانتحار! ، ويحدد النقاد أنه و إن لم يكن قد توقف عن الكتابة أثناء فترة تدهوره النفسية، إلا أن ما كتبه أثناء ذلك يعد أقل إبداعيًا بكثير مما كتبه في الفترة السابقة من أعمال ..
من جهة أخرى تؤكد أبحاث علم النفس الإبداعي أن المبدعين أكثر الناس قابلية للاستثارة والانفعال ، ويضرب أمثلة بذلك على يوسف إدريس، وعلاقته بالسادات، وما جر عليه ذلك من وبال .
وفي حديثه عن العزلة يؤكد الدكتور أن العزلة نوعان عارضة ومفروضة، فأما الأخيرة، فقد تعرض لها عدد من المبدعين، ولم تكن أبدًا سببًا لقلة إبداعهم، بل ترى بعض النظريات إنها كثيرًا ما تكون دافعًا للتفوق والنبوغ المبكر (مثل طه حسين وماحدث له منذ طفولته)، كما يشير إلى أن النوع الآخر العارض الذي يكون عند الكثير من المبدعين هي عزلة إبداعية اختيارية من متطلبات التفكير والتركيز الذي يحتاجها المبدعون والعباقرة لممارسة نشاطاتهم، وأنها ليست عزلة مرضية، ولا انطواء مرضي، ولكنها تكون ضرورية للمبدع حتى يتمكن من تجميع أفكاره، والتركيز في ما يقوم به من نشاط، أو حتى للتفكر في حياته، وما كان، وما سيكون .. ويكون ذلك كله دافعًا لتقدم أفضل
ويختم الحديث عن تلك الممارسات السلوكية الشخصية، بتوضيح بأن الخطأ في التفكير أو معالجة الأمور بتسرع، وعدم عقلانية لا يتعارض مع المبدع، إذ لا يشترط على المبدع أن يكون دقيقًا في كل أموره وصائبًا في كل تصرفاته، وأن هناك مساحة للخطأ، يجب أن ينتبه إليها، كما يجب ألا تعامل أنه من خصائصه الفردية.

ولعل من أطرف فصول الكتاب، وأكثرهم إمتاعًا ذلك الفصل الذي يتناول تحديدًا بعض الأمور أو الضوابط العلاجية للمشكلات البدنية والمهنية أو الاجتماعية التي يتعرض لها المبدع، ويبدأ فيها الكاتب ـ وعلى عادة الأطباء النفسيين ـ بالتأكيد على عدد من الحقائق أهمها، أن ما سيعرضه هو اقتراح واجتهاد لا ينبغي بالضرورة أن يسير عليه كل المبدعين أو العباقرة، ولكنه نتاج أبحاث علمية، وأن الالتزام بهذا العلاج أو السير عليه هو أمر بين المبدع ونفسه، يجب أن يكون مقتنعًا به حتى يؤدي نتيجته على أكمل وجه، وأنه يجب أن يدرك المبدع أن هناك تكاملاً بين الممارسة الإبداعية، والصحة النفسية والعقلية، والفاعلية الاجتماعية، يجب أن يحرص المبدع على أن يجمع بينهم.
فأما الضغوط البدنية والصحية:


1ـ الاسترخاء: ينصح الكاتب بالاهتمام بالصحة البدنية، وممارسة “الاسترخاء” لمدة لا تقل عن 10 دقائق 3 مرات يوميًان ويشير إلى أن الاسترخاء يختلف عن النوم العادي، أو مجرد الراحة، وإنما هو حالة يجب الوصول إليها عن طريق تدريبات محددة، تعمل على تراخي كل عضلات الجسم، وإبعاد الذهن عن أي مشتتات بصرية أو فكرية، بالتركيز التام في الجسم، والعمل على إراحته تمامًا، وينصح في ذلك بالاستماع إلى الشرائط الخاصة بتدريبات الاسترخاء، أو متابعة التدريبات الواردة في كتاب (العلاج النفسي السلوكي)، وأن ذلك الاسترخاء، وممارسته اليومية يساعد بنسبة كبيرة على الصحة البدنية والنفسية، كما يمنح المرء لياقة بدنية عامة . 2ـ ممارسة الرياضة بشكل منتظم : المشي أو الهرولة لفترة ساعة يوميًا او 3 مرات أسبوعيًا على الأقل، أو ممارسة السباحة، أو التدريبات السويدية الخفيفة التي تؤدي إلى التنفس بعمق .. 3 ـ الغذاء المتوازن والملائم: والطريف انه في هذه النقطة لا ينصح بنظام غذائي، قدر ما يحذر من تناول الكحوليات، وشرب السجائر، والعقاقير المنشطة، أو المهدئة، وأنه على المبدع أن يقلل من استخدامها قدر المستطاع، كما ينصح (طبعًا) بالتوقف عن التدخين نهائيًا!!

أما فيما يتعلق بمواجهة الضغوط الإبداعية :




من المهم أن يظل المبدع مطلعًا على العديد من الأفكار والخبرات حتى إن اختلفت عن آراءه وافكاره، وينصح بقراءة العديد من الكتب والمجلات، والحرص على الاستماع إلى الآخرين وحضور الندوات واللقاءات الملائمة، و القيام بالرحلات، وزيارة المتاحف، وعدم التذرع بضيق الوقت، و التحرر من الأفكار السلبية تجاه هذه الأعمال، إذ أنه( ليس من الضروري أن يؤدي كل عمل تعمله إلى تغيير وجه العالم، كما أنه ليس مطلوبًا منك إنقا البشرية، وتحريرها من كل مشكلاتها، إذ أن الهدف الأساسي من الانسياب الإبداعي هو أن يمنحك إحساسًا بالسلام الداخلي والإشباع ..
1ـ الكفاءة النفسية: أي أن على المبدع أن يعي تمامًا أن الإبداع كما يحقق له نوع من الرضا النفسي، والسرور بإنجاز هذا العمل، فإنه قد يكون سببًا في تضارب المشاعر عنده، وتحمل بعض مشاق العملية الإبداعية، من التفكير الذهني الكثير، أو التعرض لمواقف قد تؤثر عليه سلبًا ، وغير ذلك . 2ـ التحرر من طغيان الوقت: يجب أن يدرك المبدع أن لتنظيم وقته عامل هام في صحته النفسية، من جهة، وإنجازه الكثير من الأعمال من جهة أخرى، كما تتطلب إدارة الوقت الاستثمار الأمثل للأوقات التي تضيع منه باستمرار، وعدم إضاعة الكثير من قوته في أمور ترفيهية أو ثانوية ( وينصح في هذا الصدد بعدم مشاهدة التلفزيون أكثر من 10ساعات أسبوعيًا) 3 ـ إتاحة الفرصة للاستغراق في العمل: إذ تشير الأبحاث النفسية إلى أن الاستغراق في عمل ـ خاصة إذا كان محبوبًا ـ يجعل المرء يشعر بالكثير من المشاعر الإيجابية، وتجدد نشاطته، وتمده بالطاقة للمزيد، وينصح للوصول إلى هذا الاستغراق بأن يفكر المرء في معاني أكثر شمولية من مجرد أداء العمل الروتيني، أو أنها مفروضة عليه .. إلخ 4 ـ التفتح الذهني على الخبرات الجديدة

أما الضغوط الاجتماعية وزملاء المهنة:
فيشير الكاتب بداية أنه يجب أن ندرك أنه لا توجد علاقة اجتماعية مثالية، بل ولا يوجد أسلوب مثالي لتكوين علاقة اجتماعية فعالة ودافئة، كل ما في الأمر تدريب النفي على التعامل مع الانفعالات السيئة التي تعوق السلام النفسي والفاعلية الاجتماعية، فمن ذلك :


يحتاج المبدع أكثر من غيره إلى أن يكون حاسمًا في كثير من الأمور، حتى لا يدع المجال لبعض تلك الأمور أن توتر نشاطه، وتشغل حيزًا ليس ذا بال من تفكيره، والحسم وتأكيد الذات أمران يختلفان عن العدوانية والغضب، فتوكيد الذات يعلمنا التعبير عن المشاعر الملائمة بطريقة مناسبة ، ويساعدنا الحسم على اتخاذ القرارات الحاسمة بسرعة مناسبة ..

” لا تسمح بدور واحد أن يحكم كل وقتكن وان يلتهم كل علاقاتك، وإلا أصبحت كالممثل الفاشل الذي يتقن دورًا واحدًا، فيفقد بمرور الوقت اهتمام المشاهدين”، ويتم ذلك بتقدير الواجبات المطلوبة، وتحديد أوقاتها، ورسم حدود فاصلة بينك وبين الآخرين، حتى تستمر العلاقة بشكل ناجح .. ، وكذلك عدم إهمال شؤون أفراد الأسرة، وإعانة الأصدقاء والأقارب ، ومحاولة حل مشاكلهم، والخروج من دائرة النرجسية والتقوقع للفاعلية والنمو ..
(لمن يرغب في اختيار طريق الإبداع من الشباب .. لا تتردد ولا تخجل من طلب النصح من أهل الخبرة.. )

ولهذا الأمر طرفين، أحدها أنت ـ كمبدع ـ إذ عليك أن تحاول أن تعبر عن غضبك بشكل هادئ، ومن الممكن أن تبث مشاعرك إلى صديق موثوق، أو أن تحاور نفسك حوارًا هادئًا، فإن ذلك يعمل على تخفيف مشاعر الغضب، الطرف الآخر الذي قام بإغضابك، عليك ألا تفكر فيه بشكل سلبي مبدئيًا، بل حاول أن تضع أعذارًا لتصرفاته مهما بدت في نظرك غير منطقية، أو غير عادلة، فليس بالضرورة أن يكون الناس جميعًا متفقين معنا منطقيًا أو عادلين ، وعلى المبدع أكثر من غيره أن يتدرب على تقبل الاختلاف، وتعلم فن التفاوض حتى يتمكن من الوصول للحلول الوسط.
ويعلم أنه ليس بالضرورة أن تكون منتصرًا في كل المواقف، وأن الأمر ليس مكسبًا وخسارة، وإنما هو عرض لوجهات نظر، قد تكون كلها صحيحة في النهاية .
1 ـ التعامل مع النقد: وهي نقطة بالغة الأهمية والخطورة ، وفيها ينصح بأنه يجب على المبدع ألا يفسر النقد على أنه امتهان شخصي أو استهانة به، ومما يساعد على ذلك نبذ الأفكار السلبية عن الآخرين، كفكرة(إنهم يتآمرون علي)( لا يريدون نجاحي، ).. وغيرها !، والتفكير بروية في النقد الموجه، ومحاولة الاستفادة منه مادام بناءً، وإيجابيًا، أما في حال ما إذا كان النقد سلبيًا وهدامًا فقط، ولا يستند على أساس منطقي ، فعلى المبدع أن يفكر في طبيعة علاقته بمن وجه إليه هذا النقد، ومن الممكن أن يلجأ معه إلى أسلوب” التعمية”وذلك بأن يظهر الموافقة على أحد جوانب النقد الموجه مع إظهار عدم الاكتراث بهذا الجانب، وبذلك يضمن تهدئة الطرف الآخر من جهة، وحماية المبدع من التصرفات الطائشة التي تؤثر عليه وعلى إبداعه فيما بعد .. ” يحتاج المبدع أكثر من غيره إلى أن يكون له علاقاته الاجتماعية ، بحيث يكون له ومن حوله حلقة من الأصدقاء ممن يتسمون بالدفء والمودة والسماحة، والتقبل، ولتحقيق هذا الغرض أنت لا تحتاج إلى عدد غفير من الأصدقاء ، إذا يكفي أن تكون لك علاقة عميقة بصديق أو اثنين تشعره معهما بالتقدير والحب والنصح الخالص. 2 ـ مهارات الحسم وتوكيد الذات : 3 ـ التوازن في أداء الأدوار الاجتماعية 4 ـ إجـادة التعامل مع الغضب

ويخصص الكاتب الفصل الأخير لتوضيح حقيقة هامة، وهي أن” الكثير من الاضطراب النفسي يكون ناشئًا من أفكار مبالغ فيها، أو تعميم وتوقع سلبي، أو تشويه في فهم وإدراك ما يحمله الآخرون من نوايا”..
وأن كثيرًا من عوامل الاضطراب أو الضغوط النفسية نضع أنفسنا فيها باختيارنا، وكأنه يشير إلى فكرة الكوب الملآن، وأنه على المبدع أن يرى في الحياة دائمًا هذا الجانب المتفاءل الذي لا يعدمه في كثير من الأحوال، وكما ينظر في جوانب الحياة إلى النصف الممتلئ من الكوب، فإنه يتعامل مع الناس بطريقة مشابهة، إذ البشر في الأرض ليسوا شياطين، ولا ملائكة، بل بشـر خطاءون، وخير الخطاءين التوابين !
كذلك فإن كثيرًا من جوانب الاضطراب تنشأ من الربط بين وقائع غير مترابطة بالضرورة، مثل الربط بين التعاسة والانطواء، أو النشأة في ظروف أسرية تعيسة، أو الاكتئاب بسبب مرض أحد أفراد الأسرة، أو أن عملاُ من أعماله قوبل بالرفض أو النقد، ويتشابه مع هذه الأمثلة ما يبدر من بعض المبدعين الذين يربطون تكاسلهم عن الإنتاج والإبداع بضيق الوقت، بدلاً من أن ينسبوا ذلك إلى تعارض نشاطاتهم الاجتماعية مع الأوقات المطلوب تخصيصها للعمل .

وهكذا ينتهي هذا الكتاب القيم، بعد أن وضح ذلك التعارض بين الإبداع والاضطراب النفسي ، ليؤكـد أن ما نراه من أعراض ما هي إلا ضغوط نفسية، وحياتيه، وأنه بإمكان المبدع أن يتعامل معها بإيجابية، وبطريقة قد تجعل منها سببًا للمزيد من الإبداع والتقدم، وليس العكس .

إ

سـقـف الـكفـاية .. وغـواية الشـعر


نُشــر بـ ديوان العـرب أول ينايـر 2006

قد تستطيع قصيدة واحدة أن تسلب لبك، وتجعلك تتوحد معها شعوريًا بالكامل، بل وقد تشاهد على خشبة المسرح أداءً رائعًا لأحد مشاهد المأساة (الكلاسيكية بصفة خاصة) فتستدر منك الدمع، أو تصل بك إلى حالة من التوحد، تجعلك منبهرًا بها وأسيرًا لتلك الحالة الخاصة جدًا التي خرجت بها منها، ولكن أن يفعل ذلك كله فيك رواية أنت تقرأ حروفها، فإن هذا ـ في رأيي ـ كثير، كثيرٌ جدًا.. فرق بين أن تتوحد مع قصيدة، لا تستغرق مدة قراءتها الساعة بحال من الأحوال، وأن تتوحد مع نص روائي مكتوب يستغرقك بتفاصيله لمدة ثلاث ساعات ـ مثلاً ـ بل وتجدك غارقًا في تفاصيله، حتى لتخالك تعيش كل كلمة ينطقها السارد/ البطل هنا.. وتعيش معه كل آلامه، وأحزانه... الآراء الانطباعية التي يطلقها المتلقي / القارئ العادي، في هذه الحالة سوف تتشابه إلى حد كبير مع الآراء النقدية التي تتوخى النظرة العلمية للنص.. بفرض انعزال الناقد عن ذاته، أو بفرض الموضوعية المطلقة، وهي مستحيلة !... الرواية بشكل عام تتناول قصة كلاسيكية غاية في القدم، بل إنها ربما تعد استعادة حديثة شديدة العصرنة لمأساة الحب العذري القديمة، حيث قيس وليلى، وليلى ومجنونها، تلك القصص العربية التي ظلت تصر على أن الحبيب لا يصل إلى حبيبته إلا بشق الأنفس، وهو يظل على عهد هذا الحب مهما تقادم به العمر لدرجة أنه: يمر على الديار ديار ليلى يقبل ذا الجدار وذا الجدار.... قصة مغرقة في الكلاسيكية، والتقليدية على هذا النحو، ماذا بوسع شاعر أن يتناول فيها.. وكيف يمكنه أن يجددها؟؟ وأنا هنا أبدأ بقول شاعر، لأن كاتب الرواية شاعر كان ومازال يعتز بشاعريته، بل وأضيف إن تحوله الأخير إلى الرواية (الصادرة عام 2002) لم يثنه عن كتابة الشعر حتى الآن، ولهذا ربما بدأت حديثي بالفرق بين أن يصوغ الشاعر (مشاعره) في قصيدة، وأن يسردها في رواية من نحو 400 صفحـة... اللغة هي الجدار الأساسي الذي يجب أن يتكأ عليه الراوي حينئذٍ، ذلك أنه ـ فيما أزعم ـ تظل محاولات البراعة الحوارية مقتصرة على المسرح، أما في الرواية فنحن بحاجة إلى (سارد) مقتدر، يمسك بزمام اللغة فلا يفلته، وهنا لم يكن أمام (علوان)، وهو الشاعر أولاً، والمتأثر بروايات مستغانمي ثانيًا، لم يكن أمامه إلا أن يعتمد على اللغة الشاعرية، تلك التي تدفقت منه في عفوية مطردة فخرجت إلى القاريء كأروع ما يكون.. منذ البداية يقر الراوي/ البطل أنه يمارس (سرد الذنوب.. ويكون عبر قلم قاضيًا ومتهمًا ومحاميًا، ولا شاهد إلا ذاكرة صعبة، ولا جريمة إلا حب شارد..) تذكر الرواية قصة شاب سعودي مترف، يقع في غرام فتاة سعودية مترفة (هي الأخرى)، ويتم لقاؤهما في البداية عبر (سماعات التليفون)، تلك التي صنعت عالمًا كبيرًا من العشاق، الصادقين أو الملفقين (( الرياض مدينة كبرى نصف هواتفها عشق، ونصف هذا العشق مراودة )).. ويلتقيان، يلتقي الفتى، والفتاة، في السعودية، ذلك المجتمع الذي يصعب على المحبين أن يتلاقوا فيه بهذه السهولة، ولكنهما يلتقيان،ـ بل ويخترق (علوان) بروايته، وأبطاله، كل المحظورات، فيصل بهما إلى حد اقتحام الغرف المغلقة، فهاهو (ناصر) يأتي إلى (مها) في غرفة بفندق ـ أولاً ـ ثم في منزلها بعد ذلك!! والذي يجعل الموضوع دراميًا وتراجيديًا ـ منذ البداية ـ أن حبيبة البطل كانت ـ منذ البدء ـ مخطوبة لغيره، بل وصارحته بأنها كانت تحب رجلاً (ثالثًا) قبله..!! إنه كسرٌ عنيف، وفضحٌ لمناطق مسكوتٌ عنها كثيرة داخل المجتمع، ذلك الذي لا يزال يرعى المظهر الخارجي رعاية مبالغٌ فيها، حتى أوصل الحال إلى ذلك !!. تقوم الرواية على تصوير دقيق للبطل الضد، البطل المهزوم الذي يتلذذ بتعذيب نفسه، ويستغرق في الحزن حتى النخاع، أما باقي شخصيات الرواية فهي شخصيات على الهامش، يعرضها الراوي/ البطل، كما يراها، ويتدرج على تعرفه بها، مع القاريء، ولهذا نتحد مع شخصياته أيضًا.. نبدأ معه تدريجيًا من أسرته الذي يعرفنا عليها بطريقة غير مفتعلة، تسير مع سرد/ تصوير مأساته، حيث: الأم/ التي تغدق عليه من حنانها وحبها، حيث لم يتبق غيره، من البيت الذي كان عامرًا.. أما الشخصيات التي تبدو مؤثرة بعد حبيبته الغائبة المغيبة فهي صديقه العراقي (ديار)، ثم السيدة العجوز (تنغل) في فنكوفر.. بعد ذلك تبدو الشخصيات كلها هامشية، حتى تلك التي تأثر بها البطل/ السارد، وأثر فيها مثل أخته أروى. يسخر من (سالم) الرجل النمطي الذي يرضى لنفسه بزواج الصالونات، وامتلاك المرأة بدون أي قدر من الحب! بل ويسخر من طريقة الزواج البدوية (تلك) ـ كما يصفها ـ كلها!! ويتعرض بجرأة لعلاقة الفتى بالفتاة، والرجل بالأنثى داخل المجتمع المحافظ، ويسخر من الرياض التي تعلمهم أن يكونوا ذكروًا قبل أن يكونوا بشرًا !!، ويستنكر انتقاص الأمهات لبنات جنسها منذ الصغر... فـ (يكبر الرجل وهو مستعل على المرأة، وتكبر المرأة وهي خائفة من الرجل!! يرحل ناصر إذًا حاملاً همه وحزنه وذكرياته المليئة بليالي الحب في الرياض، يرحل إلى حيث يحاول أن ينسى الحزن، وهناك يواجه بأحزان جديدة، يقابل في الغربة صديقه (ديار)، و يلتقي الهم الشخصي بالهم العام، وتلتقي السياسة بالحب، ويجمعهما المأساة والتشرد، والغربة، كل ذلك يضاعف من حزن (ناصر) وآلامه، ثم تأتي السيدة (تنغل) تلك الحكيمة التي ارتضى أن يبثها كل أحزانه، واعتبرها أمه التي لم تلده !، وهي عجوز قعيدة، تخلى عنها ابنها، فوجدت في ناصر ذلك الابن الضال، ولكن الغربة والحزن يتراكما عليه لتموت السيدة (تنغل)، ويرحل صديقه (ديار)، ولا يبقى غيره في الغربة، فيقرر العودة إلى حضن أمه.. وهناك يقرر البطل/ الرواي أن يكتب تلك الرواية التي يبدأها في ألمانيا وينهي فصولها في الرياض، وما إن تمثل للطباعة، حتى تظهر (مها) حبيبته، لأول مرة.. و تنتهي الرواية! على هذا النحو (المفتوح) ينهي (علوان) قصة عذاب الشاب السعودي المترف الذي قضى ليله ونهاره في تذكر محبوبته والبكاء على أطلال حب لم يكتب له القدر البقاء، وكأن عودة المحبوبة على هذا النحو، أو حضورها المادي يمحو كل فصول الرواية، لينشأ علاقة جديدة، ربما تمنح فصولاً أخرى لرواية مختلفة... على هذا النحو يمنح (علوان) وبعد 400 صفحة من العذاب والحزن، والتقلب على فراش الفراق وآلامه، يغلق الباب بكلمة واحدة (ودخلت مها) ليفتح الباب على مصراعيه لخيال القارئ وذكائه.. ليتفجر السؤال، وماذا بعد أن تعود؟!! هكـذا كانت رواية (سقف الكفاية) ذلك المزيج المدهش بين لغة الشعر وسرد الرواية، وبين الحب والحزن والسياسة، التي لم ينس الراوي الذي شاهد في طفولته حرب الخليج أن يذكر أثرها على مدينته، ويرسم بمرآة ذلك الذي كان طفلاً كيف كانت تلك الحرب، كما صور بمرآة صديقه (ديار) مأساة الطغاة العرب بأقسى تجلياتها حينما يأمر الطاغية بقتل أحد جنوده لأنه أفشى أحد الأسرار للطفل الصغير (الذي لم يكن غير ديار) آنذاك، ديار الذي كبر ليفاجأ بدولته تطرده، وزوجته وابنه يموتان أمامه!! ويذكر لمحمد علوان في هذا الصدد أنه لم يستغرق في وصف الغرب، ولم ينغمس في مقارنات أو مفارقات بين الشرق والغرب، كما يفعل الكثير من الروائيين في كتابتهم للرحلة، ولكن ذلك لم يكن إلا في حدود مشاعر البطل وأحاسيسه الحزينة تجاه العالم المحيط به، كأن يتأمل المطر في ألمانيا والفرق بينه وبين المطر في بلاده... كما ظل وفيًا طوال فترة غربته لحبيبته التي ظن أنه يهرب منها، فإذا بها تحاصر صحوه ومنامه حتى عاد! رواية سقف الكفاية الصادرة عن دار الفارابي منذ عام 2002، والتي طبعت للمرة الثانية عام 2004 متوفرة كنسخة (شرعية) (اضغط على الغلاف للحصول عليها) على موقع الروائي والشاعر (محمد حسن علوان) الخاص، ويمكن تنزيلها من هناك فورًا وقراءتها، وإبداء رأيك فيها... وقد جمع الكاتب كل ما كتب عن روايتيه في موقعه ذاك..